البندول يوصل تياراً كهربائياً ويقطعه في كل مرة يهتز فيها، ورأيت أمام العالم أنبوبة صغيرة من أنابيب النيون التي شاع استعمالها الآن في الإعلانات ليلاً في الشوارع، وكرة نحاسية معلقة بسلك يحمل في أحد أطرافه مؤشراً يدور دوران السلك فتدور معه الكرة في السائل المراد اختباره، وكلما أكمل البندول هزة اتصل أحد أطرافه بحوض من الزئبق، فيمر التيار الكهربائي وتتوهج الأنبوبة التي لا تلبث أن تنطفئ بمبارحة البندول للزئبق، وهكذا كلما كان السائل مائعاً تأخرت الكرة قليلاً في دورانها عن السلك الحامل لها أي عن المؤشر، وهذا المؤشر لا يظهر للعين إلا في الفترات القصيرة التي تتوهج فيها أنبوبة النيون.
التفت إلى الأستاذ وقال مشيراً إلى أنبوبة النيون:(هذه عيون أحسن بكثير من عيوننا)، وهو بهذا التعبير الصادق يلخص لنا الاتجاهات الحديثة في العلم التجريبي، الذي بات لا يعتمد على حواسنا كما كان الحال في زمن قريب بقدر ما يعتمد على الوسائط الطبيعية.
والواقع أن العين وهي أعظم ما نملكه من حواس هي جهاز متوسط لا يعد شيئاً مذكوراً بجانب الوسائط العلمية الأخرى التي تفوقها حساسية وتعظمها دقة، ولو أن الإنسان اعتمد في كل ما يرجوه من تقدم في أعماله التجريبية على حواسه، لما تقدم العلم للحد الذي هو فيه اليوم، ولما اختلف كثيراً العهد الذي نعيش فيه عن أقدم العهود.
إنما ذكرت تجارب جييه واستعماله غاز النيون والظاهرة المعروفة باسم (الستروبوسكوبي) لأبين للقارئ الاتجاهات الحديثة في العلم التجريبي، فلا ترجعن المسائل للمحسوسات وحدها، وإلا عدنا لعصر الإغريق عندما كان الدليل الفلكي لا يزيد عن بضع مئات من النجوم، أو عصر العرب عندما كنا نقضي عشرة أيام لكي نسافر من القاهرة للإسكندرية، حيث كنا مجبرين أن نتبع فوق ظهر الإبل حركتها الدورية أكثر من مائة ألف مرة، وهي الحركات الناشئة عن خطوات الجمل الذي يحملنا بتثاقل لقطع مثل هذه المسافة البعيدة جداً في العهد المنصرم والتي أصبحت على طرف الثمام في العهد الذي نعيش فيه.
وهكذا في معظم التجارب الطبيعية اليوم لا تأتي العين إلا في المرحلة الأخيرة منها. ولعل أحسن ما أقدمه من مثال للقارئ هو أن أشرح له (غرفة ولسون)، وهو جهاز يرسم لنا مسارات الأشعة الكونية، وهي الأشعة التي قدمنا أنها آنية من عوالم بعيدة لا نعرف