فإذا اتفقنا على أن الفن وحده هو الذي يميز الشعوب بعضها من بعض - وهذا أمر أظن أنه قد أصبح ميسوراً أن نتفق عليه - رأينا أهل الفن المصريين الذين أحسوا وجوب ابتداع فن مصري حديث محقين منصفين وطنهم المسكين الذي طال شوقه إلى العزة الذاتية التي لم يعد لنا سبيل إلى تحقيقها إلا عن طريق الفن ما دمنا قد أدركنا أن الصناعات والعلوم إذا تشابهت في الأمم لم يكن هذا مما يمس كيانها الذاتي، وما دمنا مؤمنين بأننا متخلفون في هذه الآفاق جميعاً عن غيرنا فلن نلحقهم فيها إلا بعد جهد.
نحن إذن لا نملك إلا أن نعجب بكل فنان مصري يعمل لإنشاء الفن المصري أو ينادي بإنشائه لأن في عمله هذا سعياً إلى تثبيت عزتنا القومية.
ونريد الآن أن نتعرف الطريق الذي يؤدي بنا إلى هذه الغاية النبيلة، وقد يرى القارئ بعد الكشف عن هذا الطريق أن مصر لا تزال عذراء وهي المليحة الحسناء، وأن الفنان المصري الظمآن إلى الجمال لا يزال بعيداً عنها كل البعد يبحث عن عروسه في الفضاء، وفي الهواء، وهي تكاد تتخاذل من الشوق اليه، وتكاد تستخذى من كثرة ما تبرجت وازينت وخطرت أمام بصره وتهادت أمام بصيرته، وهو يأبى إلا أن يغمض دونها عينيه، وأن يغلف دونها نفسه كأنما هو يتقيها اتقاء وكأن بينه وبينها ثأراً. وقد يحسن قبل أن نزف هذه العروس إلى هذا المتعشق الحيران أن نحدثه عنها قليلاً. فما هي مصر؟
هي أولاً هذه الأرض التي تعرفها والتي تتشكل الطبيعة فيها بثلاثة أشكال بارزة قد ترادفها أشكال أخرى، أما هذه الأشكال البارزة فهي هذه البيئات الجغرافية الثلاث: بيئة الصحراء، وبيئة الريف، وبيئة السواحل. وأما البيئات الأخرى فنذكر منها بيئات المدن، والواحات، والبحيرات. ومصر هذه يشقها من الجنوب إلى الشمال نهر النيل، وتتناثر في شمالها وشرقها البحيرات، ويجاورها من الجنوب السودان فيلون أهل جنوبها ببعض لونه الذي يمتصه من بيئته الجغرافية. وتكاد مصر بعد ذلك تنعزل عن أراضي جيرانها.
أما سماء مصر فصافية مكشوفة لا تتلبد إلا عند السواحل فقط، وأما مناخها فمعتدل هادئ أميل إلى الحرارة لا يصطخب ولا يبرد إلا عند السواحل أيضا.
هذه هي بيئة مصر الجغرافية وهي كما ترى بيئة سهلة لا تعقيد فيها، وقد طبعت هذه البيئة