وَكر الصِّبا! كم صَلِينا البيْن أزمانا ... والآن عُدْتُ فَهوِّنْ ما بكَ الآنا
إني على العهد باق فوق عهدك بي ... لم أسْل عنك، ولا حاولت سلوانا
لا تَلحَني فكلانا بالبِعادِ شجٍ ... تُدْلي بشكواكَ أمْ ندلي بشكوانا؟
لم أنسَ فجر الصِّبا في جانبيك ولا ... عهداً مضى فيك بالأفراح فَينانا
ولا ملاعب لهْوى في حماك ولا ... مَراحنا جانب الوادي ومغْدانا
إذ ليس نفرغُ من لهوٍ ولا لعبٍ ... إلا حثثنا إلى لهْوٍ مطايانا
ولا يهلُّ لنا شهرٌ فَنُبِليهُ ... إلا وزادَ صِبانا الغَضَّ رْيعانا
هنا نشأتُ فكم لاقيتُ مرفهةً ... وكم رضعتُ هنا بِرّاً وتحْنانا
هنا هفا القلبُ حولَ الحسنِ مُرتمياً ... مثل الفراشِ حيال النورِ هَيمانا!
هنا رَشفتُ كؤوس الحبِّ طافحةً ... مَعْ من أحبُّ وعينُ الله ترعانا!
في هالةٍ من شُعاع الطُّهرِ قد جَمعتْ ... مُنى الهوى والصِّبا اللاهي وإيَّانا
لا ينطقُ الأنسُ إلا من أسرَّتنا ... ولا يُرى البِشرُ إلا من ثنايانا!
وكلما ضاقَ عنا الكونُ أجمعهُ ... بَنى الخيالُ لنا في الحبِّ أكوانا!
فالناسُ يحيَوْنَ في دنيا همومهمُ ... ونحنُ في معزلٍ عنهم بدنيانا!
نعيشُ كالطير وثَّاباً برَوضته ... يميتُ ساعاتِه حبّاً وألحانا
يلهو ويشدو على الأغصان مُزدَهياً ... مُرفرفاً في الفضاء الرَّحب نشوانا
. . . سرح قضيتُ بها فجرَ الحياةِ فيا ... تُرى يعودُ بها عَهدي كما كانا؟
والآن - يا وطني - حالتْ بنا غيرٌ: ... تجاربٌ قد أرتنا الدهر ألوانا
محا الزمانُ أضاليلَ الصّبا فعفتْ ... لولا بَقيَّاتُ حبٍ في حنايانا
وفي الحشا ذِكَرٌ أنسَيْتها خَلَدي ... فلا أُحيلُ بها الأفراح أشجانا
ولستَ تنقمُ إلا أنني رجلٌ ... أختطُّ من تلعاتِ العزّ أوطانا
ما اعتضْتُ بالأهل والإخوان من بدلٍ ... وإنْ أضفتُ لهمْ أهلاً وإخوانا
عُدْ للسرورِ نَعُدْ للهو ثانيةً ... وزِدْ نزِدْ بك في اللذات إمعانا!
(حضرموت - سيوون)