يغزلها من القطن والصوف بمغزله الصغير الذي لا يزيد ثقلاً ولا حجماً على لعب الأطفال. . .
لا يمكن أن يكون غاندي هذا قريباً من الغباء ولا الغفلة؛ وإنما هو ذكي يتسامى ذكاؤه على ذكاء الناس، وعاقل يتعالى عقله على عقولهم. وليس في هذا عجب ولا فيه خرق لنظم الطبيعة. فنحن إذا تأملنا نفس غاندي، رأينا الرفعة والسمو متحققين فيها مؤكدين في الناحيتين اللتين تكملان النفس الإنسانية إذا أضيفتا إلى العقل، وهاتان الناحيتان هما الخلق والحس. فسيرة غاندي تثبت أنه من أرفع الناس خلقاً، ومن أشدهم استساغة لمعاني الشرف والنبل والوفاء والبر والصدق والعطف والتضحية، وغير هذه من الفضائل. . . فقد كان في الهند وفي إنجلترا وفي إفريقيا الجنوبية، مثلاً سامياً للإنسان الفضيل الذي يأسر بالفضل أهله وذويه، والذي يعجز خصومه عن أن يتهموه بنقيصة خلقية، وعن أن يصفوه برذيلة. هذا على الرغم مما يرويه هو من عيوب نفسه وزلاتها. فقد اعترف على نفسه بأنه كان يسرق من أبيه ما يشتري به الدخان، كما سجل على نفسه أنه اقترف الزنا بإيحاء من صديق شقي كان يغريه بالفساد في أوائل أيام الشباب. . . فهذه الخطيئات العابرة لم تكن في الحق أكثر من محاولات صبيانية أراد غاندي أن يتذوق بعض الطعوم من لذائذ البدن عن طريقها فما تذوقها حتى عافها سريعاً، لأنه رأى فيها تعبداً لغير الطلاقة والانطلاق. فعاد وصلح؛ ومنذ أن صلح وهو - فيما يعلم الله وفيما تقول حياته المكشوفة الصريحة - لا يقترف من الذنوب إلا هفوات الأولياء الصالحين.
هذه هي أخلاق غاندي! فهو بها أقرب من نعرف من الأحياء إلى الكمال، وهو إلى ذلك بإحساسه أقرب من نعرف من الأحياء إلى الكمال أيضاً. فقد مكنه الله من أن يصفي نفسه، وأن ينقيها حتى ليبلغ من صفائها ونقائها أن تعكس على النفوس أنوار إحساسها فتغيرها وتملأها بأمان النور وبهجته. وهذه مرحلة من الإضاءة الروحية يبلغها الإنسان بعد أن تتم له استضاءة نفسه هو بالإحساس الصادق والاستجابة لصدق الإحساس، وليس أدل على ما نقوله من هذا الحادث الذي طعن فيه غاندي بالحب ذلك الذي أراد أن يطعنه بذي النصل، فقتل فيه النزوع إلى الشر واعزم على الجريمة بعد أن جمع لها إحساسه وإرادته وإيمانه، وبعد أن دبر لها وقفته وخفيته وأعد لها سلاحه، وبعد أن هانت عليه فيها حياته وفرط لها