وهل كان يحمد من الوزارة أن يكون قصارى جهدها الاستقالة من الحكم وإنها لفي موقف جهاد ومقاومة لدسائس الدساسين ومطامع الطامعين؟ كلا. بل أنا لنرى استقالتها في تلك الظروف ضرباً من الفرار ومثلاً من أبلغ أمثله الضعف، وعلى الأخص إذا سلمنا بموقف الخديو من القضية كلها على النحو الذي نذكره، والذي لن نجد دليلاً على صحته أبلغ مما ذكره لورد كرومر في كتابه حيث يقول:(إنه بين للسير أدوارد ماليت في يوم ٦ مايو أنه يؤثر أن تفقد مصر بعض امتيازاتها على يد الباب العالي وتعود إليها السلطة المنظمة على أن تبقى في مثل تلك الفوضى) ومعنى هذا أنه كان يريد أن تطلق يده في مصر فيحكمها كما يشاء ولا عبرة في سبيل الوصول إلى هذا الغرض بمبلغ ما تفقد مصر مما حصلت عليه من امتيازات خطت بها خطوات واسعة نحو الاستقلال
وإن الذي يرى هذا الرأي لن يكون احتكامه إلى قواعد الدستور إلا ضرباً من المغالطة، فإذا كان الدستور يقضي باستقالة الوزارة إذا تعذر التفاهم بينها وبين الخديو فلن يكون ذلك إلا على أساس احترام الخديو لذلك الدستور في جملته وتفصيله. . . وما أخطر أن يتخذ الدستور أداة لطرف منهما بالتحايل عليه بما ليس فيه. . .
وقفت وزارة البارودي لا تتحول ولا تلين فكان موقفها هذا ثورة لا شبهة فيها، ثورة قومية كأروع وأجمل ما تكون الثورات القومية، وهو موقف نراه جديراً بالإعجاب والتقدير، وما نحسبه لو كان في بلد غير بلدنا إلا كان يعد من المواقف المشهودة التي تذكر في مواطن الفخر والمباهاة
وكانت الوزارة قوية بادئ الأمر لأنها كانت معتزة بالنواب وإجماعهم على الأخذ بناصرها، ولكنها نظرت فإذا بينهم تهامس وفي صفوفهم إسرار وإعلان، وإذا كبيرهم سلطان يدعوهم إلى الحكمة والروية. . . وكم تحمل على الحكمة والروية أعمال ليست منها بسبب من الأسباب. . . قال سلطان باشا يومئذ للسير أدوارد ماليت:(لقد أسقط المجلس شريفاً تحت ضغط عرابي، وإن نفس الأعضاء الذين ألحوا في ذلك أكثر من غيرهم - وقد استبان لهم أنهم خدعوا - يتوقون اليوم إلى إسقاط الوزارة). . . ولو اطلع عرابي على الغيب يومذاك لرأى أن هذه أخف ضربة من ضربات سلطان هذا، تلك الضربات التي سوف يسددها إلى