من نتائجه أن تكيفت نظرة أبى العلاء تكيفاً إن لم يكن كلامياً محضاً فقد شابته الشوائب الكلامية؛ فأهتم بخلق الأفعال: أهي من صنع الله أم من صنع الإنسان. وأهتم لمرتكب الكبيرة أهو خالد في النار أم مجرم يرجى غفران الله. واهتم بصفات الله أهي خارجة عن ذاته أم هي منها؟ وهذا هو السبب الذي حدا بي أن أفصل جبرية أبي العلاء على منهاج الكلاميين
الحق أنه من الظلم أن نقارن بين أبي العلاء وبين الفلاسفة. فأبو العلاء لم يقصد إلى الفلسفة قصداً فنأمل أن يتحدث عن الجبرية كما يتكلم سبينوزا أو ليبنتز أو عمرو بن عبيد وغيرهم من الفلاسفة وعلماء الكلام، وأن يتحدث عن الكون كما يفعل أرسطو أو أفلاطون
ولم يقصد إلى الأخلاق وإصلاح المجتمع فيحدثنا عنهما كستيوارت، وإنما هو أديب قبل كل شيء، وأديب يعني بالصناعة الأدبية: يحفل للفظ ويعني به عناية الجوهري، ويحرص على الغريب منه ويتلغبه ويتقفاه، ويستطرد له استطراداً ربما أضاع المعنى أو أضعفه. وهو كذلك يحفل للمعنى الطريف فيبحث عن أي ثوب يلبسه، وبأي شكل يعرضه، ومبلغ ما يكون فيه من حسن إذا كان على هذه الصورة أو تلك. وهو أديب كذلك يأخذ شواهده وأمثلته مما يرى وما يسمع وما يحس. فهو إذا فكر في أقدار الإنسان ضرب لنا مثلاً مما حوله وأنتزع مواد تفكيره ووسائل تسجيله مما حوله كذلك
فهو لم يحاول أو قل لم يستطع أن يجرد العالم من ظواهره وينفذ إليه حقيقة عارية متحدة، وإنما هو كان يريده رافلاً في تلك الصورة والمعاني التي درج الشعراء على أن يخلعوها عليه. ولعل حرص أبي العلاء على المعاني المبتكرة، والأفكار الخفيفة واللفظ القوي الغريب، والسبك المتين كأن أشد من حرصه على النظرات الفلسفية العريضة الشاملة. ولعل ميله إلى إظهار آثار ذاكرته الأدبية القوية التي تعي أخبار الأقدمين وأشعارهم وعلمهم، ومقدرته اللغوية البيانية التي تسمو به إلى محاولة تقليد القرآن، ومزاجه الشاعري الذي يهفو إلى كل خاطر عابر، ويرنو إلى كل معنى بديع، لعل ذلك صرفه عن إن ينشئ فلسفة خاصة به بينة المعالم واضحة الحدود، أو أن يردد ما قال به معاصروه من الفلاسفة الإسلاميين وغير الإسلاميين. فأنت تستطيع - إن شئت - أن ترى صورة أدبية حقيقية لعصره، وأنت تستطيع إن شئت أن ترى صورة اجتماعية لعصره، ولكنك تكلف نفسك