أساس جديد غير ذلك الأساس الذي يقوم عليه الحب بين المرأة والرجل. فقد كان استراوس غير رجل حقاً، ولكنه في كونه التائه كان لا يزال يحب المرأة، ويستسلم لها، ويفزع كلما خيل إليه أنه قد يقضي الحياة من غير امرأة.
وكانت زوجه تعرف فيه هذا، وإن لم تكن ترى شيئاً وراءه فكانت تظله بالذي يطيب لها من ظلال أنوثتها وحبها فاشتد سلطانها عليه، وتحكمها فيه حتى كانت النظرة اللائمة منها تهطل على أشد ثوراته اندلاعاً فتطفئها وتخمد أنفاسها
فماذا كان استراوس؟
كان إنساناً كبقية الناس، ولكنه كان إلى جانب هذا قليل الصلة بالدنيا لأنه كان شديد الصلة بما في أعماقها، وكان قليل الحيلة في اصطناع حركات الناس وسكناتهم لأنه كان شديد الخبرة بدخائل نفوسهم، شديد المراقبة لخلجات هذى النفوس ونبضاتها، شديد الموازنة بين ما يراه وبين ما ينزع إليه من الكمال، شديد النقد لما يبدو له من النقص والعيب. والذي ينفذ هذا النفاذ إلى ما تستره مادة الدنيا لا يمكن أن يشبه الرجال الذين يعيشون على سطحها، والذين يسعون على وجهها سعي الهوام والماشية. وإنما له كيان آخر، دلائله وآياته فنونه. وقد كان استراوس فناناً، وكان فنه يستدعيه إلى الأعماق، وكانت عاشقته التي نفرت منه تغوص معه إلى الأعماق أحياناً فيتزاوجان ولكنها كانت تنسى إذ ذاك أنه رجل وأنها أنثى، فإذا ذكرت هذا طفرت إلى السطح وأرادته أن يسعى إليها طفراً هو أيضاً، ولكنه كان يظل حيث هو ويناديها إليه فلم تكن تستطيع أن تعود إليه إلا إذا نسيت أنها الأنثى التي تريدها هي
فهل لم يكن ميسوراً أن تدرج إلى مغاوره وكهوفه في ثوب من الأنوثة يخلبه؟ قد كانت تستطيع لو أنها تطلعت إلى أزياء الأنوثة في المغاور والكهوف كما كانت تتطلع إلى أزيائها في (فيينا)
في المغاور والكهوف لا يتعلق الناس إلا بالحق، ولا يفتنهم إلا الصدق، ولا يمكن أن يتبادلوا العواطف إلا بوحي من الطبيعة لا بوحي من الحاجة، وبنداء من الروح لا بنداء من المادة: ذلك أن العواطف لهفات الروح لا البدن. وهم أقرب الناس إلى الأطفال. بل إنهم الأطفال ينمون في طفولتهم، ويكبرون في صغرهم. ولولا هذا لخرجوا من هذه المغاور