معرفة متقدمة فيتساءلون ويتحدثون ثم يتبادلون التمر والزبيب ويقدمون الفطور لمن أدركه المغرب على الطريق فلم يجد ما يفطر عليه، تمرة أو حبة من زبيب، هينة في ذاتها، تافهة في ثمنها، ولكنها تنشئ صداقة وتدل على عاطفة، وتشير إلى معنى كبير
وكنت انظر إلى رمضان وقد سكّن الدنيا ساعة الإفطار، وأراح أهلها من التكالب على الدنيا والازدحام على الشهوات، وضم الرجل إلى أهله، وجمع الأسرة على أحلى مائدة وأجمل مجلس وأنفع مدرسة. فوا شوقاه إلى موائد رمضان وأنا الغريب الوحيد في مطعم لا أجد فيه صائماً ولا أسمع فيه أذاناً ولا أرى فيه ظلاً لرمضان. . .
فإذا انتهت ساعة الإفطار، بدأ رمضان يظهر في جلاله وجماله وعظمته المهولة في المسجد الأموي أجل مساجد الأرض اليوم وأجملها وأعظمها، وكنت أذهب إلى المسجد بعد المغرب وأنا طفل فأراه عامراً بالناس ممتلئاً بحلق العلم كما كان عامراً بهم ممتلئاً بها النهار بطوله، فأجول فيه مع صديقي سعيد الأفغاني خلال الحلقات نستمع ما يقول المدرسون والوعاظ، وأشهد ثريّاته وأضواءه وجماعاته، ومن صنع الله لهذا المسجد أن صلاة الجماعة لا تنقطع فيه خمس دقائق من الظهر إلى العشاء الآخرة في أيام السنة كلها وقد بقى ذلك إلى اليوم على ضعف الدين في النفوس وفساد الزمان. . وإن أنس لا أنس تلك الثريا الضخمة ولم يكن قد مدّ إليها الكهرباء، فكانت توقد مصابيحها وهي أكثر من ألف بالزيت واحداً بعد واحد يشعلها الحسكيون وهم يطيفون بها على سلاليم قصيرة من الخشب فيكون لذلك المشهد اثر في النفس واضح، ثم يكون العشاء وتقوم من بعده التراويح ولها في الأموي منظر ما رأيت أجل منه ولا أعظم إلا صلاة المغرب حول الكعبة في مسجد الله الحرام فإن ذلك يفوق الوصف، ولا يعرف قدره إلا بالعيان. وليس يقلّ من يصلي التراويح في الأموي عن خمسة آلاف أصلاً، وقد يبلغون في الليالي الأواخر الخمسة عشر والعشرين ألفاً، وهو عدد يكاد يشكّ فيه من لم يكن عارفاً بحقيقته ولكنه الواقع، يعرف ذلك الدماشقة ومن رأى الأموي من غيرهم. وحدثّ عن الليالي الأواخر (في دمشق) ولا حرج، وبالغ ولا تخش كذباً، فإن الحقيقة توشك أن تسبقك مبالغة، تلك هي ليالي الوداع يجلس فيها الناس صفوفاً حول السدّة بعد التراويح، ويقوم المؤذنون والمنشدون فينشدون الأشعار في وداع رمضان بأشجى نغمة وأحزنها ثم يردّد الناس كلهم: يا شهرنا ودعتنا عليك السلام! يا شهرنا هذا