الولوع اذن غنائية هيأت له أن ينتقد المغنيات اللاتي لا يجدن من الغناء ولا يحسن الا مد الصوت ولو كان متنافراً، ولا يجدن اتفاق النغمات، ولا ندري إن كان شاعرنا قد اتخذ الخمر وسيلة من وسائل تمتعه بالحياة ولهو فيها، أو أن لهجة بها وتغنيه بذكرها، وتفننه في وصفها، كان ناشئا عن تقليد لا عن عاطفة نحوها، وبعد فماذا كان موقف ابن قلاقس إزاء الحياة العلمية؟ وما مذهبه الذي اختطه لنفسه؟ وهل كان موفقاً في اختياره هذا المذهب؟
- ٥ -
إن كنت تبغي وطنا ... من العلا فاغترب
فالسمر في غابلتها ... معدودة في القضب
على أن أسعى وما ... على نجح الطلب
تلك هي عقيدته في الحياة العملية، وذلك هو مذهبه الذي اختاره وارتضاه، فهو لا يرى العلا تنال إلا بالبعد عن الوطن والتغرب عن الآل، ففي ذلك نيل الأمل وبلوغ المأرب. ولعل ولادته في ثغر الاسكندرية لها اثر في ذلك، على أنه بالرغم من هذا لا يرى التغرب إلا وسيلة من الوسائل للوصول إلى أطماعه، فأن أخفقت فأن ذلك الاخفاق لا يفت في عضده ولا يضعضع من قوته، فعليه أن يسعى، وما عليه نجح مطالبه، وشاعرنا لم يكن في مذهبه ذلك مشرعاً فحسب أو قانونياً يلقى القانون إلى الناس، ولا يتبعه بعمل بل كان قوله ذلك معبراً أصدق تعبير عن حياته العملية كلها، فتاريخه ينبئنا أنه كان كثير الحركات والأسفار، لم يقتصر على التنقل في وطنه، بل غادره إلى بلاد غير بلاده وآل غير آله
رحل إلى صقلية في شعبان سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وصقلية جزيرة قرب ايطاليا كانت تابعة للفاطميين حينا من الزمن طويلا، إلى أن تغلب عليها روجر النورماندي، وانتزعها من أيديهم، وجعلها إمارة مستقلة، وكان بتك الجزيرة أيام وصل اليها شاعرنا قائد يسمى أبا القاسم بن حجر، فاتصل به اتصالا وثيقاً، ومدحه مدحا كثيراً، وتوثقت بينهما الصلة، حتى ان شاعرنا ألف له كتابا أسماه الزهر الباسم في أوصاف أبي القاسم، ويقال إنه قد أجاد فيه، ولكن الكتاب لم يصل الينا، وعبثت به يد الزمان، وظل شاعرنا لدى أبي القاسم حول عامين، أراد الرجوع بعدهما إلى بلاده، وكان في زمن الشتاء، فردته الرياح إلى صقلية، فكتب إلى أبي القاسم المذكور: