ولعل شاعرنا حينما ألقت به يد الأمواج إلى جزيرة دهلك لم يأنس بالمقام فيها، ولم يجد من حاكمها مالك بن شداد براولا رحمة، لذلك هجاها، وصورها بصورة جهنم بدليل أن خازنها مالك (ودهلك جزيرة بين بلاد اليمن وبلاد الحبشة) وظلت أيدي النوى تتقاذفه حتى ألقت به في عيذاب، وهي بليدة على شاطئ بحر جدة يعدى منها الركب المصري المتوجه إلى الحجاز عن طريق قوص، وهناك وافته منيته بعد أن بلغ من العمر خمساً وثلاثين سنة.
بالرغم من كثرة أسفار شاعرنا، وكثرة تنقله بين الأوطان المختلفة كان حنينه وشوقه الى مصر لا يفتران: ففي صقلية يذكر مصر، وفي غيرها يذكر مصر، ويذكر آله وقومه، ويذكر ما كان له في تلك الديار: من صحب وأصدقاء فيحن إليهم ويقول:
يا إخوتي، ولنا من ودنا نسب ... على تباين آباء وأجداد
متى تنور آفاق المنارة لي ... بكوكب في ظلام الليل وقاد
متى تقر ديار الظاعنين بهم ... والدهر يسعفهم بالماء والزاد
ويقول مخاطباً أبا القاسم بصقلية:
وعليك السلام مني، فاني ... عنك غاد أو رائح أو ساري
شاقني الأهل والديار وذو البعـ ... د معنى بأهله والديار
وتلك حالة طبيعية يمسها الرجل المفارق لوطنه، فهو يحن إليه دائماً، ويشتاقه دائماً