العباسية، وكانت خاتمة مطافه، مدينة نيسابور من أعمال خُراسان، فاتخذها دار إقامة، واقتنى بها الدور الفاخرة، واعتقد الضياع المُغِلّة، وفرغ إلى الكتابة والشعر وتصدّر للتدريس، وظن أنه يستطيع أن يقضي بقية عمره هادئ النفس ناعم البال، في ظل النعمة الفاشية والثراء الواسع والجاه العريض، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فقد مُنِي بهذا الواغل الدخيل، فنغّص عليه عيشه، وشاب صفو حياته، وساقه إلى الفناء الذريع!
ولم يكن الخوارزمي دون الهمذاني في حوك القصائد، وتحبير الرسائل، وجمع اللغة، وحفظ الأشعر والأخبار، بل ربما كان أوفر منه حظاً في كل ما يتصل بالنقل والرواية؛ ولكن الهمذاني كان يمتاز بحدة القريحة وحضور البديهة وشدة العارضة وسرعة الخاطر وقوة الارتجال، وهي أمضى سلاح يملكه المناظر لقهر خصمه وإقحامه.
وما ظنك برجل كان يُنشد القصيدة تبلغ خمسين بيتاً لم يسمع بها قط، فيحفظها كلها ويؤديها لا يخرم منها حرفاً واحداً! ويُقترح عليه إنشاء قصيدة أو رسالة في معنى من المعاني، فيفرغ منها في الوقت والساعة! وينظر في أربع أوراق أو خمس من كتاب نظرةً طائرة فيحفظها ويسردها عن ظهر قلبه! ويُقترح عليه الكتاب فيبتدئ بآخر سطر منه، وينتهي بأوله ويخرجه كأحسن شيء وأملحه! وتُلقى عليه الأبيات الفارسية فيترجمها شعراً إلى العربية جامعاً بين الإسراع والإبداع! إلى غير ذلك من العجائب والغرائب التي يحلو لي أن أسميها بشعوذة البيان!
ومع أن هذه الصفات مواهب عظيمة لم يُرزقها كل إنسان ولا ينكر خطرها في ميادين المصاولة الأدبية، إلا أنها لا تصح أن تكون فيصلاً في الحكم على أقدار الرجال وآثارهم. فأبو العتاهية مثلاً وهو رأس شعراء البديهة لا يتسامى إلى منزلة مسلم بن الوليد وأبي تمام وابن الرومي من شعراء الرّوية، والمتنبي - على سنيّ مكانته - تعد مقطوعاته الارتجالية من سقط المتاع، حتى تمنى بعض شارحي ديوانه أنْ لو خلا من هذا السخف والهذر، وعبد المحسن الكاظمي أقوى شعراء العصر طبعاً وأسرعهم خاطراً، ولكنه لا يُوزن بشوقي من شعراء الأناة، بل لا يقاس بحافظ وهو أكثر الشعراء تعباً في نحت القريض وصوغ القوافي.
ولم يكن سلاح البديع مقصوراً على هذه المزايا الخارقة التي أوردناها، بل كان - إلى ذلك