ذو القريحة يقول ما يقول الناس، ولكنه يصوره بقوة ويؤديه بدقة وينسقه بذوق ويهذبه بفن، وذوو العبقرية على نقيضه، ينظر ويشعر ويفكر ويقدر على طريقته الخاصة. فإذا وضع خطة أو رسم صورة أو بحث فكرة أخرجها على طراز فَذ فتحسبها مبتكرة وقد تكون مسبوقة، لأنه استطاع بقوة لحظه ولقانة طبعه أن يريك فروقا لم ترها، ويقفك على تفاصيل لم تتصورها، ويفجر لك النهر من حيث لم يستطع غيره أن يفجر الجدول. . والرجل العادي ينظر بالعين فكأنه لسطحيته لم ير! والعبقري يرى باللمح فكأنه لزكاته لم ينظر!
على أن هناك فرصا للكمال تجتمع فيها على الوئام العبقرية والقريحة، فيسلم الفنان حينئذ من التفاوت القبيح بين إصعاده وإسفافه، أو بين جيده ورديئه. لأن العبقرية إذا غفت خلفتها القريحة، والقريحة إذا كبت سندتها العبقرية. على ذلك تستطيع أن تقول أن أبا نواس وأبا فراس والشريف من رجال القريحة وإن أبا تمام وأبا العتاهية والمتنبي من رجال العبقرية، وإن البحتري وابن الرومي ممن جمع في الكثير الغالب بين الموهبتين. وتستطيع كذلك أن تعلل أمثال قول البحتري في أبي تمام: جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه؛ وقول الأصمعي في أبي العتاهية: أن شعره كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والخزف والنوى، وقول الثعالبي في المتنبي: كان كثير التفاوت في شعره فيجمع بين الدرة والآجُرَّة، ويتبع الفقرة الغراء بالكلمة العوراء، وقولهم في ابن الرومي: إنه امتاز بتوليد المعنى واستقصائه وسلامة شعره على الطول.
اخطرُ ببالك بعد ذلك حافظا تجد أول ما يبهرك منه لفظه المونق وأسلوبه المشرق وقافيته المروضة وصوره الأخاذة. فأما الروح والموضوع فأصداء منبعثة من الماضي في فردياته وآراء مقتبسة من الحاضر في اجتماعياته، فحافظ لم يستطع لضيق مضطربه وقصور خياله وضعف ثقافته أن يعنى بغير الشكل والصورة، وكانت هذه العناية من اليقظة والحرص بحيث لم تغفل عن خلل ولم تعي بصقال. فإذا تهيأ للشعر أو للنثر عمد إلى الآراء التي تختلج حينئذ في النفوس وتستفيض في المجامع وتتردد في الصحف فيجمعها في باله ويديرها في خاطره ثم يكون همه بعد ذلك أن يصوغها فيحسن الصوغ ويسبكها فيجيد السبك، وتقرأ بعد ذلك أو تسمع فإذا نسق مطرد وأسلوب سائغ وشئ كأنك سمعته من قبل ولكن عليه طابع حافظ ووسمه.