لوجه، فكأنما لبث من الزمن واقفاً حيث كان، وظل الجرح نازفاً حيث طُعن، وبقى القلب واقداً حيث اشتعل؛ وكأنما أسلمني كل ضعف إلى الجزع، وخذلتني كل قوة حتى الأيمان!
تفصد جبيني بالعرق، ثم أخضل جفني بالدموع، فأخذت نفسي تثوب رويداً إليّ، وتحركت يدي في فتور فتناولت الدفتر ثم جعلت أصحفه، فعثرت في ثناياه على ورقة بالية من مسودات كتابي الفقيد؛ فنشرتها بين يدي ثم أقبلت على قراءتها لهيف القلب زائغ البصر فقرأت:
(. . . هذه القهوة الضّحيانة التي رقدت على صدر دجلة النابض، واستغرقت في الدفء والضوء والسكون، كانت أحب القهوات إلى القلب العميد والخيال الشاعر. وكنت كثيراً ما أغشاها بُعيد الغداء فأجد جماعة أو جماعتين يلعبون الورق هنا، وفتى أو فتيين يتساقطان الحديث هناك، وبائع (الأبيض والبيض والعَنْبا) يسرق خطاه بين هؤلاء وأولئك فيذكر بندائه الخافت البطون التي شغلها عن طلب الطعام سكرة القمار أو نشوة المنادمة، فأجعل ظهري إلى أحلاس القهوة، ووجهي إلى وجه دجلة، وعيني إلى جسر مود، ثم أشاهد فلماً عجيب الألوان من الناس والأجناس والصور: فهذا قطيع من الغنم يعبر إلى جسر المجزرة في حمى راعيه، وهو مستسلم لصوته ومنقاد لعصاه استسلام الأمة للطاغية يقودها إلى الحرب، وانقياد الخليقة للقدر يسوقها إلى الموت! وهذا الملك فيصل يعود من قصر العرش إلى قصر الزهور من غير حرس ولا جلبة، فيقف في غمرة الناس على فم الجسر ينتظر أن يعبر القطيع وراعيه! وهنالك تلاقى راع وراع، وتقابل قطيع وقطيع! ولكل إنسان في دنياه مملكة ينفذ فيها حكمه، ودائرة ينعقد عليها افقه. . .) ثم حاولت أن أقرأ بقية الورقة الذابلة الحائلة فلم استطع!