مكبرة مهولة، وأنت تستطيع أن تسيطر على وإن تعبث بعقلي ما دمت تعرف مواطن الضعف فيه. . .؟
- هذا الذي تطلبينه يصنعه التاجر، ويصنعه رجل السلك السياسي، ويصنعه الجاسوس، وتصنعه المرأة؛ ولكن لا يصنعه الكاتب، ولا الرسام، ولا الشاعر. . . ألم تقرئي تاريخ المتنبي؟ أو لم تقرئي شعره؟ هل رأيت في الناس من هو أحكم منه، ومن هو أشد خبرة بالنقوش منه؟ إلا تظنين أن المتنبي كان يستطيع العبث بكل ملك من أولئك الملوك الذين قربوه وفضلوه على غيره من المقربين؟ إلا تظنين أنه كان يستطيع أن يبيع سيف الدولة وإن يشتري الإخشيدي؟ أنه كان من غير شك يستطيع، فلماذا لم يفعل؟!
- لأنه كان سخيفاً؟
- قولي أنه كان سخيفاً في هذه، وقولي أنه كان مجنوناً، ولكنني أقلوا أنه كان أميناً.
- أميناً لمن؟ ما كان أميناً لنفسه، فلو كان كذلك لأفاد نفسه، وما كان أميناً لسادته أو أصحابه، فلو كان كذلك لما سبهم وذكر عيوبهم. . .
- كان المتنبي أمينا لك أنت، وكان أميناً لي أنا، وكان أميناً لكل الذين عاشوا بعده وقرءوا شعره، فقد كشف لنا المتنبي عن حقيقة ربما كنا سنظل نجهلها لو لم يقفنا عليها، ولكنه صرح بها، وذكرها وقال لنا: يا خلق الله لا تشتروا العبد إلا والعصا معه، أن العبيد لأنجاس مناكيد. . .
- أو لم يكن المتنبي يعرف أن العبيد أنجاس مناكيد قبل أن تضطره الظروف إلى أن يقول هذا؟
- صدقي أني أكره في المتنبي احتماله الطويل لكافور قبل أن يصفه هذا الوصف، وصدقي أني لا أغفر هذا الاحتمال للمتنبي إلا بهذه الثورة التي ثارها على كافور آخر الأمر، وصدقي أني لو كنت مكان المتنبي ما كنت تقربت من كافور ولا من غيره، لأني رأيت أصحاب السلطان يعتزون بسلطانهم، كما يعتز أصحاب المال بأموالهم، وكما يعتز أصحاب الفكر بأفكارهم، ولا يمكن أن يعاشر معتز معتزاً إلا إذا كان أساس العلاقة بينهما استغناء كل منهما عن الآخر، وكان المتنبي يستطيع أن يستغني كما استغنى أبو العلاء، ولكن أطماعه ثقلت على نفسه فسوأت بعض تاريخه، وإن كانت أطماعه هذه هانت عليه أحياناً