عيب هذا التاريخ أنه لنا، وأنه ليس لأمة من (تلك) الأمم الحية، وأن علماءنا - أعني الفقهاء والمحدثين والمفسرين - قد انصرفوا عنه جملة، وكانوا يعدونه إلى عهد قريب من فضول الكلام، ويرون الاشتغال به مضيعة للوقت. ثم إنهم إذا عرفوه لم تفدهم معرفتهم به، فيما نحن بصدد الكلام عنه، لأنه ليس لأكثرهم أقلام، ولا بصر لجمهورهم بالأدب، ولا يعرفون من البلاغة إلا حدودها الجافة وتعريفاتها الجامدة التي بقيت في الكتب واشتملت عليها (شروح التلخيص) فهم يعرفون الاستعارة وأقسامها ولكنهم لا يستعيرون؛ ويحفظون أنواع المجاز ولكنهم لا يتجوزون. فاترك العلماء وقف على الشبان الذين اشتغلوا بهذا الفن، وكانوا هم المرجع فيه وكانوا معلميه، تر أكثرهم قد تلقى تاريخنا على غير أهله، وقرأه في غير كتبه، ولم يأخذ من التاريخ رواياته، ولا عن الرجال نقولهم، ولكن أخذ آراءهم وأغراضهم وحسب أن التاريخ يكون بالعقل، وأنه يرتجل ارتجالاً، ونسي أو هو لم يعرف أن العقل لا يصنع في التاريخ شيئاً إن لم تكن معه الرواية، وأن القيمة فيه للنص الصحيح، وأن نصوص التاريخ عندنا لا عند غيرنا. . . والبلية بهذا النفر من الناس كبيرة. ثم أن هؤلاء كلهم أو من عرفنا منهم لا يكتبون ولا يبينون عن أنفسهم، وأنهم في البعد عن الأدب كالعلماء، إلا أن العلماء حفظوا قواعد النحو والصرف والبلاغة، وقرءوا فيها الشروح الضخمة والحواشي، وهؤلاء استراحوا من ذلك كله. . . بقي الأدباء فسأل الأدباء، أن ما حال بينكم وبين التاريخ وما منعكم أن تمدوا أيديكم إلى هذا الكنز العظيم؟ وانظر ماذا يقولون!
على أن من الإنصاف أن نقرر أن هذا التاريخ الذي انصرف عنه علماؤنا وعدوه من فضول الكلام، وأخذه الشباب من غير مأخذه، إنما هو التاريخ السياسي، تاريخ الملوك والأمراء، والحروب والوقائع، وهو أضعف جانب في تاريخنا - على قوته وعظمته إذا قيس بتواريخ الأمم الأخرى - أما تاريخنا القوي حقاً، الحافل بالأمجاد الطافح بالعظمة فهو تاريخنا العلمي الذي عني به العلماء بعض العناية، وانصرف عنه الشبان الانصراف كله، ولم يكونوا منه في القليل ولا كثير، لأن دراسته تحتاج إلى آلات لا يملكونها، من اطلاع على اللغة وتمكن منها، إلى معرفة بمصطلحات أهل الحديث والفقه، إلى وقوف على التفسير ومعرفة بالأثر؛ فإذا عرضوا له على جهل بهذا كله، فإنما يعرضون نفوسهم إلى