وأما الحالتان اللتان يؤدي فيهما العامل الثاني (مجاورة شعبين مختلفي اللغة) إلى هذه النتيجة، فهما:
١ - أن تكون نسبة النمو في أحد الشعبين المتجاورين كبيرة، لدرجة يتكاثف فيها ساكنوه، وتضيق مساحته بهم ذرعاً، فيشتد ضغطه على حدود الشعب المجاور له، وتكثر تبعاً لذلك عوامل الاحتكاك والتنازع بين اللغتين. وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب الكثيف السكان على لغة المناطق المجاورة له؛ على شريطة ألا يقل عن أهلها في حضارته وثقافته وآداب لغته؛ ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى منهم في هذه الأمور: كما كان شأن الألمانية مع لغات المناطق المجاورة لألمانيا بسويسرا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والنمسا
٢ - أن يتغلغل نفوذ أحد الشعبين في الشعب المجاور له. وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب القوي النفوذ؛ على شريطة ألا يقل عن الآخر في حضارته وثقافته وآداب لغته؛ ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى منه في هذه الأمور: كما كان شأن الفرنسية والأسبانية مع لغة شعوب الباسك بمناطق البرانس؛ والإنجليزية والفرنسية مع اللغات السلتية بأيرلندا واسكتلندا وويلز ومنطقة البريتون
وسنختم هذا البحث في مقال اليوم بالكلام عن الحالات التي تعجز فيها كلتا اللغتين عن التغلب على الأخرى
فيما عدا الحالات الأربع السابقة تتكافأ قوى اللغتين المتنازعتين فتعيشان معاً جنباً لجنب، وتسلك كل منهما في سبيل تطورها المنهج الذي يتفق مع طبيعتها، وترسمه لها نواميس الارتقاء اللغوي
والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم الغابرة وفي العصر الحاضر.
فاللغة اللاتينية لم تقو على اللغة الإغريقية، مع أن الأولى كانت لغة الشعب الغالب، وذلك لأن الإغريق، مع خضوعهم للرومان، كانوا أعرق منهم حضارة وأوسع ثقافة وأقدم لغة. وقد سبق أن انهزام لغة الشعب المغلوب أمام لغة الشعب الغالب لا يحدث إلا إذا كان الشعب الثاني أرقى من الشعب الأول في جميع هذه الأمور
ولهذه الأسباب نفسها لم تقو لغات الشعوب الجرمانية التي قوضت الإمبراطورية الرومانية