الأرضية إنما تجادل خصومها فيما تزعمه لنفسها من قتل البؤس ومحو الفروق ونشر العدالة، لا فيما تتخذه بشعائرها من بنىً، أو تبتدعه لمظاهرها من شكول
ثم جعلوا غاية الدين أن يتزيوا بالورع، ويتفقهوا في علومه بتشقيق الجمل وتوليد الألفاظ وتعديد الفروض، فإذا زادوا على ذلك شيئاً فهو الوعظ الذي يميت الطموح ويخمد العزيمة ويحقر الدنيا ويهيئ النفوس المثقفة التي أعوزها النور الهادي والصوت المهيب لأن تصغي لما يتقوله المبشرون على الإسلام من الأباطيل ويزورونه عليه من الشبه.
ليس من البر بالدين يا ورثة الأنبياء أن تخذلوا دعوة الله لتنصروا دعوة الإنسان
إن الدعوات السياسية التي تتخذ شعار الإصلاح، أو تلبس مسوح الدين، تسلك إلى النفوس المؤمنة المطمئنة سبل الغرور والغي في غفوة من العقل أو سورة من الجهالة، فتزعزع إيمانها بالشكوك، وتذهب اطمئنانها بالفتن. فماذا أعددتم لحماية هذه النفوس الغريرة الغضة من وساوس الفتنة وهواجس الجهل؟ إنني ألقي هؤلاء النشء في كل يوم، وأحدثهم في كل لقية، وأكشفهم في كل حديث، فلا أجد عندهم من الإسلام إلا ما كان عند نصارى القرون الوسطى منه؛ ثم لا تسمع منهم إلا غماغم من الألفاظ المنكورة المكرورة عن الزواج والطلاق وحرية الفكر ومجافاة التمدن. فإذا أخذت تقرر لهؤلاء كيف كان الإسلام بتوحيده بين الدين والدنيا علاجاً لأدواء المجتمع ونظاماً لفوضى الطبيعة، وتدلل على أن ميزة الإسلام التي تفرد بها هي أنه يساير التطور ويطاول الزمن، فلا يمكن أن تكون فيه مناقضة للمدنية الصحيحة ولا معارضة للتقدم الحق، سألوك دهشين: وأين نجد بيان هذا؟
والمعضلة التي لم نجد لها إلى اليوم حلاً هو إجابتهم عن هذا السؤال: وأين نجد بيان هذا؟ الواقع الذي يكسف البصر ويرمض الفؤاد أنك لا تجد في مكتبة الدين الإسلامي على ضخامتها وسعتها كتاباً واحداً يشرح للناس عبقرية هذا الدين وفلسفة تشريعه ووجوب إصلاحه وأسباب خلوده، على ضوء العلم الكاشف ونظام التأليف الحديث. وما أظن ديناً من الأديان قد نكب في نفسه وفي أهله بمثل هذه النكبة!
فلو أن الله وفق (جماعة كبار العلماء) فألفوا هذا الكتاب بدلاً من تأليفهم في (المياه التي يجوز بها التطهير) مثلاً لدفعوا عن أنفسهم معرة الجود وعن دينهم نقيصة التخلف.
ولكن كبار العلماء لم يدخلوا هذه (الهيئة) إلا ليعظم القدر ويضخم المرتب، فكيف نجشمهم