يكتسبها الكلام من المعاني من حيث هي معان معقولة مدركة، وإنما هي فيه من روح الشاعر وأعصابه، ونبضات الشوق الأبدي التي تتنزى في دمه؛ فأيُّما معنًى عرفه الشاعر، وأيُّما صورة رآها، وأيُّما إحساس أحس به، فهو لا يكون من شعره إلا حين يتحول في روحه وأعصابه ودمه إلى أخيلة ظامئة عارية تبحث عن زيها ولباسها من أسلوب الشاعر وألفاظه، ثم تريد بعد ذلك زينتها من فن الشاعر لتفصل عنه في مفاتنها الجميلة كأنها حسناء قد وجدت أحلام شبابها في زينتها وأثوابها. وبقدر نقصان خزائن الشاعر مما تتطلبه أخيلته الظامئة العارية، يكون النقص الذي يلحق العذارى الجميلة التي تسبح في دمه من معانيه
والشعر على ذلك هو فن تجميل الحياة، أي فن أفراحها الراقصة في نسمات من الألحان المعربدة بالحقيقة المفرحة؛ وفن أحزانها النائحة في هدأة التأملات الخاشعة تحت لذعات الحقيقة المؤلمة؛ وفن ثوراتها المزمجرة في أمواج من الأفراح والأحزان والأشواق، قد كُفَّتْ وراء أسوار الحقيقة المفرحة المؤلمة في وقت معاً
وهو على ذلك فلسفة الحياة، أي فلسفة السمو بالحياة إلى السر الأبدي الذي بث في الحياة أسرار المستغلقة المبهمة التي تُرى ولا تُرى، وتظهر ولا تظهر، وتترك العقل إذا أرادها حائراً ضائعاً مشرداً في سبحات من الجمال تضيء فيه بأفراحها كما تضيء بأحزانها، وتفرح بكليهما وتحزن، فرحاً سامياً أحياناً، وحزناً سامياً أبداً
وإذا كان الشعر هو فلسفة السمو بالحياة، فمعنى ذلك أنه النظام العقلي الدقيق الذي يبلغ من دقته أن يكون منطقه إحساساً مسدداً لا يخطئ ولا يزيغ ولا يبطل ولا يتناقض في أسلوبه الفني ونظامه الشعري البديع، وهذا النظام العقلي النابض الذي يتلقف مادة أفكاره من الحياة لا يستطيع أن يشعر أحياناً، ولا يشعر أحياناً، كما قال بعضهم، ولا يستطيع أن يتقيد بزمان ومكان يستوحى منهما الشعر ثم لا يكون هو يستوحي من غيرهما، كما ذهب بعض أصحاب الكلام إلى القول حين ظهر (ليالي الملاح التائه) في شعر الطبيعة المصرية، وشعر الطبيعة الأوربية وما إلى ذلك من فضول الحديث
إنّ هذه الحاسَّة العاقلة المفكرة النابضة في الشاعر تأخذ مادتها من مساقط الوْحي في كل أرضٍ وتحت كل سماءٍ؛ وربَّ خمول أو فِترة تأخذُ هذه الحاسة في موطنها ومنشئها