والصراع على أشده بين أقبالها وبينهم وبين مليكهم، لما نجح الأحباش في فتحها والاستيلاء عليها بقوات صغيرة. وفي هذا حل للأشكال الثاني الذي استشكله (قارئ). أما نجاح الهجوم الحبشي برَّا، فقد كانت تضاريس الجزيرة لا تجعله ممكناً؛ والأحباش كانوا يعرفون هذا لدرايتهم بشؤون الجزيرة من الوجهة العسكرية عن طريق التجارب، إذ كانوا يجردون التجريدات العسكرية على نجران بين الحين والحين إخضاع القبائل الثائرة، ومن هنا كانت الصعوبات التي يلقونها مضرب المثل. فلا عجب إذا كانت فكرة الأحباش أقرب إلى الواقع من فكرة الروم، رغم تفوق الروم عليهم في المعارف والأفكار. ولا يبعد أن يكون الروم لا يجهلون هذه الصعاب، ولكن الحرب التي طالت بينهم وبين الفرس، جعلتهم يتعلقون بالأوهام والخيالات علّها تأتيهم بمخرج مما هم فيه. وهذا الموقف تجد له شبيهاً اليوم في الأحلام التي تداعب رأس هتلر، في إمكان مهاجمة حلفائه الروس الهند وضربهم إنجلترا فيها، مع أن هذا الحلم دون تحقيقه من الصعوبات مالا يغيب على أحد، والهنود يعرفون اليوم استحالته، والألمان تدفعهم الرغبة لتحطيم بريطانيا لتصوره، بل وتصور نجاحه. وهذا لا يضعف بأي حال من الأحوال من ثقافتهم وعلومهم التي جعلتهم متفوقين على معظم أمم الأرض. فإذا وضعنا هذا موضع النظر فإن الإشكال الأول يزول من نفسه، خصوصاً إذا عرفنا أن معنا حكم التاريخ الحاضر وليس الماضي
بقى أن الفاضل (قارئ) لاحظ أنني قلت في صدر بحثي أن بر وكوب اليوناني تكلم عن تعرض الأحباش للحجاز بتحريض الروم، مع أن الأحباش لم يكن قصدهم التعرض للحجاز بل مساعدة الروم. وهذا صحيح، ولكن كما قلت (ص٤٥١ عمود٢ من العدد٣٤٨ من الرسالة) إن إلحاح الروم على النجاشي اضطره أن يأمر عامله على اليمن بالتحرك شمالاً ومهاجمة التخوم الفارسية، ولما كان الطريق الطبيعي إلى هذه التخوم يمر بأرض الحجاز، فإن القوات الحبشية قد ابتلاها الله بالجدري الذي فتك بجندها فاضطروا إلى الرجوع والاعتذار للروم عن تقديم المساعدة إليهم. وتكون بذلك حملة مساعدة الروم وقفت عند حد التعرض للحجاز، ولم تتجاوزها إلى ما بعدها، فاتخذت في الظاهر شكل حملة على الحجاز، وكان العنصر المحرض فيها الروم، بدون أن يكون الغرض منها الحجاز نفسها في حال من الأحوال. وكان يحسن بقارئ أن يراجع نصوص بر وكوب وشروح نولدكه