للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وتدرك ثم تعبر عما تقف أمامه زائرة كالتي رأيناها لا تعرف الفرق بين بائع الجيلاتي وبائع العرقسوس. . .

انتهيت من هذا (المنجد) ونظرت يمنة ويسرة فلفتني تمثال لغجرية تبين (زينا) لامرأتين قرويتين استند إلى كتف إحداهما طفل. . . كنت على بعد خطوات من التمثال أراه ولا أرى تفاصيله وملامح وجوهه، فجذبني إليه (موضوعه) واقتربت منه أبحث عن فعل لفنان فيه، فالغجرية امرأة لها عقل أبرع من بقية العقول، ولها نظرات أنفذ من بقية النظرات، ولها إشارات أكثر امتلاء بالمعاني من بقية الإشارات، والنسوة اللواتي يجلسن إلى الغجرية يستفتينها في شؤونهن لسن هادئات ولا نائمات، وإنما تثور في نفوسهن رغبات، وتصطرع فيها آمال، وتتخبط فيها نزوات ولواعج، والصبي الذي يستند إلى كتف أمه ويقف يسمع الغجرية تحدثها لا يمكن أن يخلو من الفضول وحب الاستطلاع، ولا بد أن يظهر في وجهه تفرس يتتبع به هذا الكلام العجيب الذي يسمعه والذي يحسه لا يشبه غيره من الكلام. . .

دنوت من التمثال لأرى فيه هذا كله فماذا رأيت؟

رأيت الغجرية نائمة والمرأتين ناعستين والصبي المستند إلى كتف أمه شارد الروح. . . بل إن شارد الروح يدل على نفسه، فيعرف الناظر إليه أنه قد سرح إلى دنيا غير هذه الدنيا، فهو موجود فيها، وإن كان مفقوداً في دنيانا. . . أما هذا الطفل، فقد ظهر عليه أنه ابتلع روحه، فهي في بطنه محبوسة لا تكسوه حياة الأرض ولا تنتقل به إلى حياة أخرى. . .

كان هؤلاء الجماعة أشبه الجماعات بتلاميذ المدارس في لحصة الخامسة بعد أكله العدس. . . متهافتين إلى النوم، متبلدين عن الفهم، ولم يكن فيهم ما يكون في غجرية وجماعة مصغين إليها. . . فكسف دخل هذا التمثال هذا المعرض؟ وأي شيء فيه أغرى المعرض بعرضه؟. . . هذا ما يعلمه الله وما يعلمه أولئك الذين يقولون: إنهم يشجعون الفنانين الناشئين. والذين أريد أن أقول لهم: إن تشجيع الفنانين الناشئين لا يصح أن يكون على حساب الفن، ولا يصح أن يتعدى حدود التشجيع إلى أن يكون تحريضاً على الفن، وإكراهاً له أن يخضع ويذل لمن لا يكرمه ويفسح له روحه ونفسه. وهذه كلمة شديدة لا أريد منها إلا أن تحفز صاحب الغجرية على أن يمعن في التأمل إذا تأمل وأن يثابر في تجويد التعبير

<<  <  ج:
ص:  >  >>