وجلست أنا متعجباً حائراً كيف يكون هذا الذي أرجو منه حل مسألتي محسوباً لي، وهو لا يعرفني كما ذكرت إلا من ترددي عليه!؟ وتنازعني الضحك والغضب، فأما الضحك فمن هذه الحركات (البهلوانية) المحكمة، وأما الغضب فلأنه يظن أني لست أفهم أنه يسخر مني، دع عنك إهمال أمري الذي استمهلني آخر مرة جئته فيها من أجله ثلاثة أيام، فما عدت إليه منذ ذلك اليوم إلا بعد ثلاثة أسابيع، ومع ذلك فهو يقول (قربنا) والمسألة في غير مبالغة لا تستغرق منه أكثر من ربع الساعة!
وعاد فوجدني لا أزال في موضعي، فتلاقي في وجهه التجهم والابتسام في وقت واحد، وهو من كثرة مرانه يعرف كيف يبتسم بناحية من وجهه، وبتجهم بالناحية الأخرى. . . ثم غلبت ابتسامته تجهمه في أسرع من ارتداد الطرف، ونظر إلى من ابتسم إليه من أصحاب الديوان ابتسامة فهمت منها أنهم يضحكون منه لأنه لم يستطع أن يصرفني أو يضحكون من أني على الرغم من ألاعيبه بقيت ثابتاً لا أتحول
وجاء شخص غيري رقيق الحال يلبس جلباباً عليه معطف يسأله هو أيضاً عن مسألته فقال في نفس ظرفه وأدبه:(حاضر يا عم إن شاء الله تجينا بعد يومين تكون مبسوط) ولما شكا الرجل وغضب قال له باسماً: (حلمك يا بويا إن الله مع الصابرين قلت لك إن شاء الله تكون مسرور) ولما أدار الرجل ظهره لينصرف نظرت إلى صاحب الديوان فإذا به يخرج له لسانه، وابتسم ابتسامة عريضة وضحك من رآه من أصحاب الديوان، وكثيراً ما أضحكهم بمثل هذه الأمور كما قرأت ذلك على وجوههم
واتجه إليَ قائلاً:(شرفت يا بيه) وفهمت معناها فليست إلا مطالبة بالانصراف؛ وهممت أن أنصرف، وقد تأكد لي ما سبق أن عرفته من أن الأوراق عند أصحاب الدواوين قسمان، قسم يعلم به المدير أو الرئيس، وهذا هو الذي ينجز ويعد، وقسم لا علم للرئيس به، هذا لا يتناوله أصحاب الديوان ولو بمجرد القراءة، وعلى مصالح الناس ألف سلام!
وسلمت فنهض يصافحني في ظرفه ولباقته، وهو يقول:(ما تأخذناش يابيه، والله الواحد خجلان. . . حالاً إن شاء الله) ومضيت ولكني التفت عند الباب أنظر إليه فلست أدري لم ألقى في روعي أنه ظل يخرج لي لسانه منذ ودعته. . .