للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

التشويه

على أي وضع من أوضاع الذوق والجمال يعتبر منظر هؤلاء (الأفندية) الذين تحلقوا على الحشائش فما خفت لهم صوت منذ جلسوا، وما جرت ألسنتهم إلا بكل عوراء مخزية من النكات والحكايات؛ حتى لعبت برؤوسهم بنت زجاجاتهم فازدادوا نكراً وقحة وعلى جوانبهم أسر فيها أوانس وسيدات؟

وعلى أي وضع من أوضاع الذوق والجمال يعتبر منظر هؤلاء الشباب المتعلمين الذين يأخذون السبيل على كل غادية ورائحة، ولا يتنادون إلا بأشنع السباب وأوقح الأسماء والذين لا يطربهم أكثر من عبارات السب توجه إليهم ممن يغزلن (ويعاكسن)؟

ثم ما هذه (الشلل البلدي) الذين اصطحبوا من اصطحبوا ممن كن وإياهم على موعد في هذا اليوم الجميل فجاءوا وجئن يضيفون إلى معاني جماله هذا المنظر المخزي البغيض؟

بل ما هذا الأفندي الوجيه الذي خلع سترته وألقى بطربوشه ووقف يرقص في حركات بهلوانية وحوله من يصفق له ممن يعرفونه ومن لا يعرفونه، وهو لا يزداد على التصفيق إلا جنوناً وانتشاء، ثم هو لا يفتأ يعاود حركاته كلما استخفه التصفيق ممن أولعوا باستخفافه؟ وما هؤلاء الشحاذون الذين انتشروا هنا وهناك، فكانوا أثقل على الهادئين من المهرجين ومن الذباب ومن رائحة الفسيخ؟ وما هذا الضجيج، وما هذه الفوضى التي تلاشى فيها جمال الربيع وصفو الربيع واستخذى لها وجه الربيع، حتى لو استطاع ربيعنا لبحث له عن أرض غير هذه الأرض، وناس غير هؤلاء الناس!

رأيت هذا، فذكرت يوم شم النسيم في القرية، وطاف برأسي عذارى الريف يسبقن الفجر زرافات إلى الترع فيستحممن ويملأن جرارهن ويغطينها بالريحان والنوار، وبعدن مغنيات ضاحكات تنفحهن أنفاس الفجر الندية الرخية، وترمقهن باحتشام عيون الشبان في طريقهم إلى شجر التوت وفي أيديهم الريحان والسعد والنعناع والورد، فلا يكون بين هؤلاء وأوليائكن إلا الابتسامة الحلوة أو التحية العفة، ويكون نهارهم ونهارهن فيضاً من الجمال والهدوء والانبساط، ومما شاءوا وشئن من هوى عذري تبقى ذكراه وذكرى المسرة في نهاره سحر العام كله.

(عين)

<<  <  ج:
ص:  >  >>