دفاعه عن نفسه. وقد اختلفوا في تصوير هذه النشأة على الرغم من اتفاقهم على الأسس السابق ذكرها. وأشهر نظرياتهم بهذا الصدد نظرية دارون التي تتلخص في أن الإنسان كان في الأصل من الفصائل المتسلقة الأشجار؛ ثم اضطرته ظروف قاهرة إلى العيش على الأرض، حيث تعرض لغارات الحيوانات القوية وسطوها عليه. فاستخدم في مبدأ الأمر في مقاومتها أنيابه وأعضاء جسمه كما كان يفعل من قبل وكما تفعل أفراد فصيلته. ولكن هذه الوسيلة كانت تضطره إلى الارتماء في أحضان عدوه فتعرض حياته الخطر. فهدته غريزة المحافظة على الحياة إلى وسيلة أخرى تدفع عنه عدوان الحيوان بدون أن تضطره إلى الاصطدام به. وذلك بأن يقذف عليه عن بعد قطعاً من حجارة أو خشب أو معدن، أو بأن يمسك بطرف عصا ويدفعه عنه أو يضربه بطرفها الآخر. وقد كان لهذا الأسلوب الجديد أثران كبيران في حياة الإنسان:
أحدهما أنه يضطره إلى الوقوف على رجلين اثنين في أثناء دفاعه عن نفسه. ومن تكرار هذه الوقفة أخذت قامته تعتدل شيئاً فشيئاً حتى استوى القسم الأعلى من جسمه مع أطرافه السفلى، وأخذت عادة المشي على أربع تضعف بالتدريج حتى انقرضت (وإن كانت تظهر في بعض مراحل الطفولة الإنسانية وفقاً لقوانين الوراثة النوعية التي تقضي بأن يجتاز الطفل في سبيله من الطفولة إلى الرجولة نفس المراحل التي اجتازها النوع في سبيله من الحيوانية إلى الإنسانية ومن الوحشية إلى الحضارة)
وثانيهما (وهو الذي يهمنا في موضوعنا) أن هذا الأسلوب الدفاعي قد أعفى الإنسان من استخدام فكه وأسنانه في الدفاع عن نفسه؛ فتعطلت هذه الأعضاء عن القيام بجزء كبير من وظيفتها ونجم عن ذلك تقلص العضلات والعظام الصدغية التي تتحرك مع الفم؛ وترتب على هذا التقلص أن اتسع مجال النمو للجمجمة، فزاد حجمها عما كان عليه؛ وباتساع حجم الجمجمة اتسع مجال النمو للمخ، فزاد حجمه ونشأت به مراكز جديدة لم تكن به من قبل، من أهمها مراكز اللغة التي نحن بصدد الكلام عنها
ولتأييد هذا الأثر الأخير، قام العلامة أنتوني بتجربة على عدد من الجراء (الكلاب الصغيرة)؛ وذلك بأن استأصل جزءاً من عضلاتها وعظامها الصدغية، وتتبع نمو جماجمها بعد هذه العملية؛ فتبين له أنها أخذت تتسع أكثر من المعتاد.