الآباء على أولادهم لم تنشئ في أولادهم إلا ما يكون من أضدادها، كالشجر يفرط عليه الري فلا يحدث فيه إلا اليبس والذوى، وإنما أنت تسقيه الموت ما دمت ترويه بمقدار من هواك لا بمقدار حاجته
ونشأ الفتى في أحوال اجتماعية مختلفة جعلت من أخص طباعه تمويه نفسه على الناس، والتباهي بالغنى والتنبُّل بالأصدقاء. والحاشية من وزرائه وعماله، والتهيؤ بالثياب والأزياء، فانصرف باطنه إلى تجميل ظاهره، وردَّ ظاهره على باطنه بالشهوات والدنايا وأعانه على ذلك أنه جميل فاتن خلقت صورته (للصفحة الحساسة) من قلوب النساء. وذلك ملك عظيم لم يكن أبوه الرجل الطيب منه إلا كما يكون وزير مالية الدولة. . . ولما أرسل إلى باريس وقع منها في بلد عجيب كأنه خيال متخيل، لا يؤمه رجل في الدنيا من كامل أو ناقص، وعالم أو جاهل، وشريف أو ساقط، إلا رأى فيه ما يملأ كل مداخل نفسه ومخارجها، فلو قامت مدينة من أحلام النفوس الإنسانية في خيرها وشرها، وطهرها وفجورها، واختلالها ونظمها، لكانت هي باريس. وانقطع الشاب هناك إلى نفسه وإلى صور نفسه من أصدقاء السوء، فلا أهل فيلزموه الفضيلة ولا إخوان فيردوه إلى الرأي، ولا خلق متين فيعتصم به، ولا نفس مرة فيفئ إليها ولا فقر. . . فيحد له حدوداً في الشهوات يقف عندها. وما هو إلا خيال متوقد ومزاج مشبوب وتربية مدللة وطبع جرئ ومال يمر في إنفاقه، ومن ورائه أب غني مخدوع كأنه في يد أبنه كرة الخيط: كلما جذب منها مدت له مدا، ثم ما هنالك من فنون الجمال ومتع اللذات وأسباب اللهو مما يتناهى إليه فساد الفاسد وما هو في ذاته كأنه عقوبة مستأصلة للأخلاق الطبية فكان الشيطان الباريسيُّ. . . من هذا المسكين سمعه وبصرة ورجله ويده يوجهه حيث شاء. وبالجملة فقد ذهب ليدرس فدرس ما شاء ورجع أستاذاً في كل علوم النفس المختلة الطائشة وفنونها، وأضاف إلى هذه وتلك كلمات يلوي بها لسانه من علوم وأقاويل ليس فيها إلا ما يدل الحاذق على أن هذا الشاب لم يفلح قط في مدرسة فلما وقعت (خضراء) منه ذلك الموقع وأخذت مأخذها في نفسه، اعتدها نزوة من نزواته، فما بمثله أن يحب مثلها ولا هي كفايته في شئ، إلا أن تكون لهو ساعة من ساعاته، أو حادثة تجري فيها حال من أحواله الغرامية. وحسبها امرأة ليس لقلبها أبواب تمتنع على مثله، فقدر أن غناه وفقرها يقتلعان باباً، وعلمه وجهلها