للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حدثني الشيخ الجليل الثقة السيد عبد الكريم الدباغ قال: كان السيد عبد السلام الدرعاوي من الأطباء النطاسيين المهرة عندنا بفاس قبل عهد الحماية بسنين، وكان يشتغل بالتجارة ولا يتقاضى أجراً على التطبيب والتمريض كجميع أطباء المغرب، إذ كان عاراً أي عاراً أن يكون للمادة نصيب في مهنة الأطباء الذين يحتسبون أجورهم في سبيل الله. ومن ثم كان إخلاص الأطباء المغاربة في مهنتهم من أشد العوامل في تفوقهم ونجاحهم

قال محدثي: والطبيب عبد السلام الدرعاوي لم يدرس الطب في كلية باريس الطبية، وإنما أخذه عن أشياخ هذا العلم هنا. ومع بساطة الأعشاب والعقاقير التي كان يستعملها في أدويته كنت تجده في علاج كل داء كأحسن ما يكون الطبيب حين يكون اختصاصياً فيه

قلت: وما شواهد عبقرية هذا الطبيب في جراحة الأسنان مثلاً؟

قال: لقد سقطت بها على خبير، وحسبك من ذلك أن تسمع هذه القصة: كانت لي أخت فتاة سقطت صباح يوم من شرفة الجناح الأعلى إلى عرصة المنزل فانهشمت عظامها أو كادت، وانخلعت أسنانها وانتثرت، ولم يعد أحدنا يخطر له في بال أنها ستعيش ساعة أو ساعتين. وأسرعنا فأوصينا بصنع التابوت، ثم نادينا الطبيب عبد السلام لننظر رأيه في الفتاة المتردية، وبعد لحظات كان الطبيب قد أحضر أدويته، وجاء فجردها ودهنها بدهان من فوق إلى تحت، ثم أخذ كل سن من أسنانها فأعادها إلى التجويف (بطريقة خاصة من اختراعه) لم يحتج معها إلى جبيرة من الذهب قط. ثم وصف لنا طريقة تمريضها ووقايتها

ثم قال محدثي: واقسم لك يميناً صادقاً لقد عاد للفتاة كامل صحتها بعد أيام قلائل، أما أسنانها فيكفي أنها لا تزال حتى الآن صلبة متماسكة وقد أصبحت الفتاة أم فتيات.

ونريد أن نثبت هنا أن بعض ابتكارات الغرب إن هي إلا بعث جديد لنتاج عباقرة الشرق من غابر التاريخ. وأن بعضاً منها له أصول وأسس في تاريخ الشرق نعلمها حيناً ونجهلها أحياناً

فما عسانا نصنع بعد هذا وقد حكم الدهر الظلوم بأن تطمس معالمنا وتعفي مآثرنا بين ظلمات الجهل وغمرات الجمود؟

(فاس)

أدريس الكناني

<<  <  ج:
ص:  >  >>