تهكمه تجلت فيه براعة مقارنته بين أخلاقنا وطبيعة جونا؛ وللفن والأدب والتعليم وغيرها من الأمور مما لا يسعنا حصره، كثير من غمزاته والتفاتات ذهنه. . . كل أولئك وأنا مصغ أسلم على طول الخط بكل ما يقول، لا أخالفه ولا أراجعه عله يفرغ فالتمس السبيل إلى موضوعي من جديد، ولكن ثورته كانت كالسيل الجارف لا يلوى على شيء. . . وكان يدخل أثناء الحديث كثير من الخدم، فيقدمون إليه أوراقاً، فيأخذها ويضعها على غيرها من الأضابير دون أن ينظر فيها، فإذا أشار أحدهم إلى أن فيها ما تستعجل الإجابة عنه صرفه بقوله:(قل له حالاً. . . دقيقة واحدة). ثم عاد إلى حديثه، فجرى فيه على غير تحبس أو ملل
وجاء بعض زملائه يستعجلونه أوراقاً، وكان يلتفت بعضهم ألي قائلاً:(لا مؤاخذة يا بيه) كأنما كنت أنا سبب ما يشكون من عطلة، وهو منصرف عنهم بحديثه لا يزيد على أن ستمهل من يستعجله منهم دقيقة؛ ثم يستأنف حديثه وهو أنشط وأهدأ بالاً مما كان! وانتهزت فرصة فعبرت له عن اعتذاري، وقد غالطت نفسي ونسبت إلي أنا السبب في ضياع هذا الوقت كله، وفهم صاحب الديوان إشارتي، فابتسم وقال:(لا. . . العفو يا أخي، لازم كلامي لم يتشرف برضاك). . . ونفيت ذلك بكل ما أملك من معاني التأكيد ومضيت أثني على حديثه بكل ما وسعني من عبارات الثناء، فاطمأن قليلاً، وسكت هنيهة ثم قال:(أنت عاوز الحق؟ الواحد هو بيشتغل على قدر القرشين بتوعهم) ولم أستطع أن أرد على ذلك القول الذي يتضمن السكوت عليه نوعاً من الاشتراك في الأخذ بما يدعو إليه، وما كان سكوتي إلا لأعود إلى موضوعي، وقد عقدت العزم على أن أعود إليه بأي ثمن
وبلغت ثورته أقصاها إذ تداعت إليه من هذا الكلام قصة الأقدمية، فراح يشكو في ألم واضطراب من أن الترقي بالأقدمية معناه أن يتساوى المجدد والمتكاسل والذكي والغبي والكفء والعاجز. فالمسألة مسألة زمن فحسب، ومتى مرت الأيام صار الموظف بحكم الزمن وحده كفؤاً مهما كان من عجزه وتقصيره. فما معنى أن يجهد المرء نفسه إلا أن يكون (عبيطاً) وهو لا يدري (عبطه)؟ وضرب المثل بنفسه: فهو يحمل شهادة عالية ورئيسه من حملة الابتدائية. وضحك صاحب الديوان وقال:(يعني أبدأ جحشاً ثم يمر الزمن فأصبح حماراً، وعند ذلك أصير أهلاً للرقي)