القديمة بالمدنية الحديثة. فهم الذين وقفوا أوربا على مخلفات اليونان وغير اليونان، وهم الذين عالجوا هذه العلوم بالتجربة والاختبار لا بالحفظ والتكرار، حتى جلوا غامضها ونقدوا زائفها ورفعوا مباحثها على أساس من النظر الصحيح. ومالنا نحمل تبعة الكلام ونتعرض للنقض والإبرام وقد كفانا الأمر ثقاتهم ومنصفوهم؟ قال المؤرخ الإنجليزي (ولز) في كتابه ملخص التاريخ: (هب العرب يظهرون ما خفي من مواهبهم فبهروا العالم بما أتوه من معجزات العلم وأصبح لهم السبق بعد اليونان فبعثوا كتبهم من مراقدها. ونفخوا فيها من روحهم الحياة والقوة، فجعلوا بذلك سلسلة العلوم متصلة الحلقات محكمة السرد لا يمسها انقطاع ولا وهن. فإذا كان اليونان آباء الأبحاث العلمية المبنية على الصراحة والأمانة والوضوح والنقد، فان العرب مربوها؛ وما جاءنا العلم والمدنية الا عن طريقهم لا عن طريق اللاتين) وأنكر كاتب من الإنجليز فضل اليونان على العلم الحديث وعزاه كله إلى العرب قال: إن العلم الحقيقي إنما دخل أوربا عن طريق العرب لا عن طريق اليونان، فان الرومان أمة حربية، واليونان أمة ذهنية، وأما العرب فكانوا أمة علمية.
لبث الفرنج يا سادتي في طور التخرج والنقل حين أخذوا عن العرب، أكثر مما لبث العرب في هذا الطور حينما أخذوا عن اليونان. فان من اليسير أن نعد كثيرا من العرب قد بذوا أساتذتهم من اليونان قبل انقضاء قرن على الترجمة، ولكن من المستحيل أن نعد من الفرنج مؤلفا واحدا قبل القرن الخامس عشر كان يعمل شيئا غير النقل عن العرب أو الجري على أسلوب العرب، فرجور بيكون، وليونارد دبيز، وأرمان دفيلنوف، وريمون لول، وهرمان الدلماشي، وميخائيل سكوت، ويوحنا الاشبيلي، وسان توما، وألبيرلجراند، والفونس العاشر أمير قشتاله، لم يكونوا غير تلاميذ للعرب أو نقله عنهم. قال مسيو رنان: إن البير لجراند مدين بعلمه كله لابن سينا، وسان توما مدين بفلسفته لابن رشد.
أسمعوا يا سادتي ما يقول (بترارك) شاعر إيطاليا العظيم ينعى على قومه تخلفهم في مضمار العلم وقعودهم عن مجاراة العرب، والشاعر من رجال القرن الرابع عشر فلا جرم أن شهادته حجة: قال في لهجة مرة من الإنكار والتعجب:
(ماذا! ماذا! أبعد ديموستين يستطيع شيشرون أن يكون خطيبا، وبعد هوميروس يستطيع فرجيل أن يكون شاعراً، وبعد العرب لا يستطع أحد أن يكتب؟ لقد ساوينا الإغريق غالبا