للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المواظبون منهم عن ثلاثين رجلاً، ما فيهم إلا الممتاز بأدبه وفضله. فإذا اجتمعوا تجردوا عن مظاهرهم، وكانت اجتماعاتهم للمرح والتنادر وسماع الأخبار. ويجاهرون بأن بعكوكتهم فوق الأحزاب وفوق السياسة، ولا غاية لهم إلا الضحك والإضحاك. والرئيس وحيد بك الأيوبي، ونائب الرئيس إدوارد بك قصيري من أكبر المحامين في مصر.

هؤلاء الجماعة من العاملين في الحياة، فإذا انتَدوْا كل ليلة - وقد يزورهم في بعكوكتهم إخوان لهم من حين إلى آخر - فللترويح عن نفوسهم، وللخوض في لهو الحديث. ولك أن تصف جماعة البعكوكة بأنهم مجدُّون في أوقات الجد، هزَّالون في أوقات الهزّل، ويا ما أُحَيْلي اجتماعاتهم، وأوقع في الأذن أصوات مجادلاتهم. وشرفني الرئيس بعَدِّي في جملتهم، وأمرني أن أنشئ بعكوكات أو بعاكيك في بلاد الشرق. فصدعت بأمره؛ وأنشأت في داري بعكوكة يختلف إليها أخلص الأصدقاء، ولكن خُلاَّني بعاككة دمشق إذا شابهوا إخواني بعاككة القاهرة في دراساتهم وثقافاتهم، فلن يشاركوهم بخفة أرواحهم وتنكيتهم.

بلاد الشام سهلية جبلية معتدلة يغلب الانقباض على أهلها، وبلاد مصر سهلية حارَّة يغلب المرح والطرب على أهلها.

ولله ما يجري في هذه البعكوكة المصرية، فإن كل أعضائها والرئيس على رأسهم يصطنعون المرح ويلتمسون الضحك، وناهيك بجمعية فيها مثل الدكتور محجوب بك ثابت المشهور بعلمه وخفة روحه وحضور نكتته. وأذكر أني عدت من الشام في بعض السنين، وكنت متلهفاً شوقاً إلى أخواني البعكوكيين فقصدت إلى البعكوكة لأستطلع طِلع أحوالهم، فرأيت بعضهم مكتئباً، والرئيس مقطباً، فسألت عن السبب فقيل لي: إن الرئيس مصاب بضعف بعض الأعصاب، والأعضاء في حزن من جراء ذلك، وكل منهم يكد قريحته ويستوحي علمه لإيجاد علاج يُعيدُ إلى الأستاذ نشاطه وصحته، ويتنافسون في هذا الشأن، ولا تنافس وزراء السلطان إبراهيم العثماني في إيجاد مقو لضعفه، مع الفارق بين أعضاء البعكوكة وأعضاء وزارة الفاجر إبراهيم. وفي الحقيقة أن أعضاء البعكوكة كانوا يجدون في شفاء رئيسهم مخافة أن يصاب المرؤوسون بمثل ما أصيب به رئيسهم، ولا تسل عما ذكر خلال تلك الأيام من نكات وحكايات وأشعاراً وآثار، وأكثرها مما يضحك الثكلى، ويسلي الحزين، ألتُزِم فيه جانب الأدب، ورعاية آداب الاجتماع.

<<  <  ج:
ص:  >  >>