بإحدى هذه الأدوات الخمس: العين التي تبصر الألوان والأنوار والظلال، والأذن التي تسمع الأصوات، والفم الذي يذوق الطعم، والأنف الذي يحس الرائحة، واليد التي تلمس الحرارة والبرودة والخشونة والنعومة؟
هل الكرامة والشرف، وهل الحرية والمجد حقيقة من هذه الحقائق المحسوسة في هذا العالم الواقعي الذي لا يعترينا الريب بوجوده؟
كلا: ليست هي شيئاً من هذا كله - كما نعلم جميعاً -
أتكون - إذن - معدومة لا قرار لها في هذا الوجود الواسع؟
أتكون - إذن - غارقة في بحر العدم اللانهائي؟
ولكن: كيف تكون الكرامة والشرف، والحرية والمجد - عدماً من الأعدام وهاهي أضواؤها الباهرة تبهر عيون الشعوب الضعيفة والقوية على السواء، وهاهي أنغامها الصارخة تدفع بالإنسانية اليوم إلى المجزرة الهائلة الطاحنة، وهاهي الدماء البريئة تراق على جوانبها، وقد كانت كذلك من قبل أن يقول الشاعر العربي العظيم:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
وستظل كذلك حتى ينصب ميزان العدل أمام الديان الأعظم. . .
كيف تكون الكرامة والشرف والحرية والمجد عدماً من الأعدام وهي نفسها تلف سبعين مليوناً ونيفاً من العرب بشملة واحدة وهم في رقاع من الأرض متباعدة؛ وهي: هي نفسها تشد الأواصر وتجمع القرابات، وتوحد المشاعر بين شعوب العربية على اختلاف الديار والأحوال. وهي نفسها - كذلك - تدفع ببضعة نفر من هؤلاء الشباب المتحمسين إلى المسرح يمثلون - أمام جمهور عربي متحمس - دوراً من أدوار جهاد العرب المقدس في سبيل الكرامة والشرف وفي سبيل الحرية ومجد الوطن؟
إذن: لا سبيل للشك في أن هذه المعاني الوجدانية السامية ليست هي من الأشياء الغارقة في بحر العدم المطلق، ولا سبيل للشك - إذن - بأنها في قرار مكين من هذا الوجود
نعم: هي موجودة دون شك ولكن. . . ولكن أين يقع محلها في بحر هذا الوجود الأوسع ما دامت لا قرار لها - كما قلنا - في عالم الواقع المحسوس؟