وراء المحسوس، أو يسيرون به على الأرض في دنيا المطامع والشهوات يبشرون برسالة الحق والخير والجمال الأسمى
هو العالم الجميل الذي يعيش به المحبون في سبحات من النور تصور لهم كل لمحة من جمال الطبيعة معنى من معاني الحبيبة أو الحبيب
ذلك هو عالم الخيال والذهن والإدراك، أو هو عالم (الوجدان) كما يسميه العلم
فللإنسان - إذن - وجودان لا وجود واحد: هما الوجود الواقعي المحسوس، والوجود الذهني غير المحسوس، أو فلنقل: إن للإنسان حياتين: حياة مادية، وحياة وجدانية، وكلما كانت حياته الوجدانية أوسع أفقاً، وأكثر إشراقاً - كان أقرب إلى الإنسانية الصحيحة أو كان أقرب إلى معنى الكمال الإنساني وكلما ضاق به أفق الحياة الوجدانية ونظر إلى دنياه من نافذة الحياة المادية وحدها - كان أبعد ما يكون عن الحقيقة الإنسانية بمفهومها الأعلى، وأقرب ما يكون إلى حقيقة هذا الحيوان الأعجم يشاركه كل المشاركة في ماديته العمياء المجردة، بل قد يفضله الحيوان الأعجم في هذه الناحية المشتركة
وشعور الإنسان بالكرامة والشرف، وشوقه إلى الحرية والمجد - هما المظهر الأسمى لإنسانيته الصحيحة، لأن الشعور بالكرامة والشرف، والشوق إلى الحرية والمجد - هما أقوى مظاهر الحياة الوجدانية، وأدل على خصب الخيال، وسعة آفاق الذهن، وغزارة ينبوع الجمال النفسي، وقوة إشعاع الروح - هذه الأمور التي تنبع رأساً من دنيا الوجدان في حياة هذا الكائن الحي الأعلى. . . الإنسان
ولا فرق في هذا كله بين شعور الإنسان بكرامة نفسه وشرفها، وشوقه إلى حريتها ومجدها، وبين شعوره بكرامة قومه وشرفهم، وشوقه إلى حرية أوطانه ومجدها، بل: لعل هذين أمران متلازمان لا ينفكان كما يبدو لدى النظر العميق
وعلى ضوء هذا التحليل الصادق تعتبر الأمة العربية في مقدمة أمم العالم رسوخاً في الحياة الوجدانية السامية، لأن تاريخا المجيد طافح بآثار قوة الشعور بالكرامة والشرف، وشدة الظمأ إلى الحرية والمجد، وأيامها التاريخية اللامعة حافلة بالأمثال العالية لحب الكرامة والشرف، وحب الحرية والمجد إلى حدود الغلو، وهي حافلة كذلك بالشواهد العجيبة على التضحية والفداء في سبيل هذه المعاني الوجدانية سواء في الماضي والحاضر، وستكون