للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بتنا في دارين أبن زيد هذا خير مبيت، وقد جاءونا بالعشاء من قصر الأمير، فلما أصبحنا غدونا عليه، فرأينا شاباً ذكياً ليس بالتعلم ولكن له مشاركة في بعض علوم الدين، ويحفظ شيئاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، تلقاها في مجالس العلم، وتلك سنة حسنة استنها الإمام عبد العزيز حفظه الله. فجعل ليله كله للعلم يأتي مجلسه العلماء فيقرؤون فيه كتاباً، فإذا أتموه شرعوا في غيره، وتكون مناقشات علمية يشترك فيها بنفسه، وقد قلده الأمراء جميعاً في ذلك؛ فمن هنا ما يحفظ هذا الشاب نائب أمير القريات. . .

استقبلنا بنفسه على عتبة الباب ببشر وإيناس، وجلس معنا يحدثنا ونار الغضا تلفح وجوهنا. ولبثنا على ذلك ساعة لم يدع فيها الأمير دقيقة واحدة قَوْلَةَ: قهَوةَ. شاهي. شاهي. قْهَوَة. يدور علينا بها عبد أسود كان شفتيه غطاء ووطاء، وكأن جسمه المحمل، ثم أديرت علينا المجمرة وفيها البخور، وبخور العود، فلم ندر ما نصنع بها؛ ثم وجدنا الأمير يضم عليها طرفي كوفيته أو عباءته حتى يتعشق الطيب ثيابه، ثم يدعها فصنعنا مثله، وانتهى العبد من إدارة المجمرة، فرأيت الأمير ينظر إلينا، فقام الشيخ الرواف وأستأذن، وقمنا معه على أن نجتمع الظهر بالأمير على الغداء. . .

فلما خرجنا، قال الشيخ الرواف: ألم تسمعوا المثل النجدي؟ قلنا: وما ذاك؟ قال: (إذا دار العود فلا تعود). فعلمت سر نظر الأمير إلينا، وتمنيت لو دخل هذا المثل بلادنا، حتى عرفه الناس؛ ثم ذكرت أن عندنا بحمد الله من لا يفهم بالعود ولا بالعصا ولا يخرج من زيارتك، حتى تخرج غيظاً من جلدك. . .

(لها بقايا)

علي الطنطاوي

<<  <  ج:
ص:  >  >>