ناموس الحياة التي تدب على الأرض ومع ذلك فهي التي سلبت هذا العقل قدرته على الخضوع للروح لتمده بالنور المشرق الذي يستضئ به في رفع الإنسانية درجة بعد درجة إلى مراتب الملائكة - أي إلى مرتبة الروحانية الصافية التي تنهل أضواؤها على النفس والقلب والروح، فتروى من فيضها، وترث من ذلك نوراً ورحمة وسكينة، وتنبت غرسها الإلهي الذي يجنيه الإنسان هداية وعدلاً وسعادة، فتتضاعف به الحياة حتى يقوى الخير فيها ويضوي الشر
لقد أخفقت هذه المدنية في سعيها لخير الإنسان، وأثبتت بكل دليل أنها مهما تكن أحسنت إلى الإنسانية فلم تحسن مرة واحدة أن تضبط نوازع النفس، وتردها إلى الطريق الواحد الذي ينبغي أن تصدر عنه، حتى تكون كل أعمالها نقية طاهرة متشابهة. ذلك الطريق هو طريق الروح الذي لا يتم لعمل تمام ولا يظفر بخلود أو بقاء، إلا أن يكون فيه مس الروح وطهارة الروح، وقدس الروح
أطلقت هذه المدنية في الدم الإنساني كل ذئاب الشر والرذيلة، فخرجت من مكامنها جائعة قد سلبها الجوع كل إرادة تحملها على بعض الورع الذي يكف منها، فعاثت في إنسانية الإنسان حتى جُنّ، وتنزي في الأرض وحشاً يجعل شريعته المقدسة تنبع أحكامها من معدته، ومن أحكام هذه المعدة ومطالبها، وكذلك انقلب النظام الاجتماعي في العالم من نظام روحي عقلي سام، إلى نظام اقتصادي تجاري ضار، الآكل والمأكول فيه سواء. لأن النية انعقدت في كليهما على الافتراس، وما فرق بينهما إلا فرق القوة التي أعدت هذا للظفر، وأسلمت ذلك إلى العجز، فدفعت به إلى رحى تدور بأسباب من الطغيان والفجور
وما هي شريعة المعدة في هذه المدنية الاقتصادية التجارية؟ هي شريعة السوق التي لا تعرف قيمة الشيء إلا في ميزان من الطلب. فما طُلب فهو الجيد، وما عُمِّيَ على الطالب فهو الرديء الذي لا قيمة له، وكل شيء قائم في جوهره على النزاع الذي لا تسامح فيه، والأمر كله للغلبة: غلبة الأقوى، لا غلبة الأعدل، غلبة الحيلة لا غلبة الصدق، غلبة البراعة لا غلبة الحق
فهذه الشريعة هي شريعة إعزاز القويِّ، لأن القوة تسوِّغه أن يتسلط، وإذلال الضعيف، لأن الضعيف تهالك به أن يتحكم، وليس بين هذين معادلة ولا نصفة، وليس أحدهما من الآخر