ولا تظن أن هذا الطاغية الصغير لم يكن يحسن من أنواع المشاغبة والمشاكسة إلا هذا النوع. كلا، ففي أية ساعة يحلو له الخروج فيها، يجب على المربي المسكين أن يكون مستعداً لاصطحابه - أو بالأحرى لمتابعته والجري وراءه - وكان يُعني عناية فائقة ويحتفل احتفالاً خاصاً باختيار الوقت الذي يكون فيه مربيه منهمكا في أعماله أشد الانهماك، كأنه يريد أن ينتقم منه على الراحة الذي اضطر في الليل إلى تركها له
. . . لذلك لم يفته في اليوم التالي أن يقطع على عملي ويطلب مني أن أصحبه، وأترك ما أنا فيه من عمل بمزيد السرعة. فرفضت، ولكن رفضي لم يزده إلا إلحاحاً وإصراراً. . .
وأخيراً قلت له: كلا! أفهم أني حين أنفذ إرادتك، فإنك تعلمني أن أنفذ إرادتي أيضاً. . . إني لا أريد الخروج! فأجابني على الفور: حسن! فإني خارج وحدي!
قلت:(كما تريد). . ورجعت إلى عملي متغافلاً عنه
. . . أخذ يلبس ملابسه مهموماً لأني لم أنهج سبيله وأسلك مسلكه. ولما انتهى من لبسها حياني تحية الخروج، فرددت التحية، وأراد أن ينذرني الإنذار الأخير، فأخبرني صارخاً بأنه ذاهب إلى آخر الدنيا. فأجبته بأني أتمنى له سفراً سعيداً وعوداً حميداً. . . عند ذاك ازدادت دهشته، وعظمت حيرته، واشتد ارتباكه، وطلب من خادمه أن يتبعه، ولكن الخادم - الذي كنت قد حذرته من مرافقته وتنفيذ أمره هذا - قال إنه لا يملك من الوقت ما يسمح له بمصاحبته، وإنه يراعي مصلحتي وينفذ أوامري قبل أن يعني بمصلحته وأوامره. . .
وكيف يعقل أن نترك طفلاً يخرج وحده وهو يعتقد أن الناس جميعاً مهتمون بأمره، حريصون على إرضائه، مستعدون لخدمته؛ ويظن أن السماء والأرض مكلفتان بصيانته وحمايته. لقد أخذ يشعر بضعفه ويحس بعجزه، ويفهم أنه وحيد وسط أناس لا يعرفونه، ولا يقدرونه، ولا يحفلون به. ويتمثل المخاطر التي سيلاقيها، والعقبات التي ستعترضه في طريقه. . . ومع ذلك فقط ظل يلح في الخروج
. . . نزل الدرج ببطء وذهول. ودخل الشارع، معزياً نفسه بأن ما قد يصيبه من سوء تقع مسئوليته عليّ. وبقيت أنا أراقبه وأتابع حركاته. وّما كاد يتقدم بضع خطوات حتى سمع أصواتاً تتحدث عنه وتصل إلى أذنيه عن يمين وعن شمال