ثم عاد فتولى الحكم حين أخذت العالمَ كله هذه الرجفةُ النازية الكبرى، فسحقت الجيوش، وثلت العروش، وغيرت وجوه الأرض، ونقضت أحكام الناس، وقلبت أوضاع المجتمع، وأصاب مصرَ منها ما لم تره في عمرها الحفيل الطويل، فصرَّف الأمور في هذه العاصفة الراجفة بالذهن الثاقب المحتال، والرأي الجميع الموفَّق، واليد القادرة الحازمة، والسياسة المتيقِّظة المستبصرة، والخطة الصريحة الجريئة، حتى اطمأن الناس إلى مصاير الأزمة، وأمِنوا شر العاقبة
فأنت ترى أن اختيار القدر لهذا الرجل في هاتين المحنتين من غير سعيه ولا استشرافه لا بد أن يكون لسر من أسرار الطبيعة فيه تعلنه عند إعضال الأمر أو استفحاله
والواقع المأنوس أن علي ماهر باشا فذٌّ بين ساسة هذا البلد في وسيلته وغايته وحكمه؛ فهو لا يعتمد في ولايته على عصبية الأحزاب المتغالبة، ولم يجر في حكمه على نمطية الوزارات المتعاقبة، ولم يجعل همه أن يدغدغ جسمه في كرسي الوزارة المخملي الوثير؛ وإنما بلغ الزعامة بالكفاية المحض، وعالج الحكم بالتدبير المبتدَع، وسما بنفسه عن سفساف الأمور ومحاقر الأغراض، وألقى باله للكبيرة والصغيرة، وأخلص رأيه للحميم والخصيم، وتعهد الأداة الحكومية في أوضاعها المختلفة ومواضعها المتعددة فجلا عنها الصدأ وعالج فيها الاضطراب، حتى نشطت لعملها الدائب في اطراد واتساق ووحدة
ومن مزايا علي ماهر باشا أنه رجل قانون ومنطق. وصاحب القانون يغلب عليه العدل والمساواة وهما روح الحكم؛ وصاحب المنطق يغلب عليه الرأي والمشورة وهما أصل الدستور. لذلك تهيأت له الفرص النوادر للاستبداد فأبى أن يعمل إلا على هَدْى طبعه ووحي ضميره
لقد كان موقف صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا من سياسة الحليفة العظيمة موقفاً يتمناه كل زعيم عظيم بما بقي من عمره. ولولا أن حليفتنا الكريمة لا تزال تجري في سياستها الشرقية على موروث من سوء الظن لوجدت في ماهر باشا أصدق حليف وأوفى معاهد يعلمها من أخلاق قومه ما تجهل، وينيلها من عواطف شعبه ما تريد. ولكنها أتاحت بهذا الموقف الأخير لعلي ماهر باشا أن ينقش في ذاكرة الزمان الواعي أنبل ما صدر عن وطنيته وعبقريته من البراعة والشجاعة والإخلاص لوطنه وملكه