وذلك الذي كان يضحك، ظل يضحك ولم يرض أن يتجه إلى ناحية ما يستقر فيها، وإنما أخذ يطوف بهم، فكلما رآهم واجمين زاد ضحكه، فإذا رآهم منبسطين تضاعف ضحكه، حتى الكلب لم ينج من ضحكاته، بل إنه هو نفسه لم ينج منها، فقد مر وهو في تلافيف الكهف بنبع نظر في مائه فرأى صورته فما استرسل إلا ضحكا. . .
حتى إذا جاء إلى الاثنين اللذين تصاحبا سمعهما يتناجيان، فتخفى وراء صخرة يستزيد سمعاً. . . وأرهف للسمع نفسه كمن يستجدي السمع مهرباً من ضيق وأزمة. . . مع أنه كان يضحك!
كان الصغير يسأل الكبير قائلاً:
- الآن وقد جئنا إلى هذا الكهف لنبحث عن ذلك الذي دخنا في البحث عنه لما كنا في المدينة، ماذا ترانا صانعين، وأين ترانا سنبحث؟ ولقد كانت في المدينة حياة متلونة، وكنت ترسلني منها وتقول لي: ابحث. فإذا سألتك عن أي شيء أبحث؟ قلت لي: سر متيقظاً، فإما رأيت أو سمعت شيئاً فاسأل نفسك ما هو؟ وكيف كان؟ ومن أين جاء؟ وإلى أين هو ذاهب؟ فإذا وجدت الجواب عند نفسك فامض بحثاً حتى تقف أمام ما يعجزك تأويله. فكنت إذا أعجزني تأويل شيء جئت إليك فأولته لي، وعرفتني أصله وفصله، ولم أرك يوماً حرت في أمر ولا استغلقت عليك مسألة، بل إني على العكس من ذلك كنت أراك تجيئني أحيانا بأحاديث عما رأيت أنت وسمعت مع تفسيره وتأويله، وما كنت أنا لأخرج منه بشيء إن كنت رأيته أو سمعته. . . هذه كانت حالنا في المدينة، فكيف تريد بحالنا أن تكون هنا، ونحن لا نرى شيئاً ولا نسمع شيئاً، وليس أمامنا إلا هؤلاء الذين جاءوا معنا، وهاهم أولاء كما تراهم متفرقين يبحثون مثلنا عن شيء لا أراه أنا فدلني عليه إن كنت تراه. . .
- هأنذا معك يا بني، لا أرى إلا ما ترى، ولا أسمع إلا ما تسمع
- وهم جميعاً هكذا، وسنقضي العمر هنا أضيع مما كنا سنقضيه لو أننا بقينا في المدينة، فهيا بنا نعد فهناك من غير شك أوفى حياة وأحلى
- صحيح. ولكن أمامنا الآن ونحن هنا في هذا الكهف شيء ليس في المدينة متا يشبهه،