اللسان العربي حتى بعد كثيراً عن أصله. ومن ثم نرى الكلمة الواحدة قد تنتقل من لغة إلى عدة لغات، فتتشكل في كل لغة بالشكل الذي يتفق مع أساليبها الصوتية ومناهج نطقها، حتى لتبدو في كل لغة منها غريبة عن نظائرها في اللغات الأخرى. فالكلمات العربية مثلاً التي انتقلت إلى اللغات الأوربية قد تمثلت في كل لغة منها بصورة تختلف اختلافاً غير يسير عن صورتها في غيرها
وكثيراً ما ينال معنى الكلمة نفسه تغيير أو تحريف عند انتقالها من لغة إلى لغة أو من لهجة إلى أخرى: فقد يخصص معناها العام ويقصر على بعض ما يدل عليه؛ وقد يعمم مدلولها الخاص؛ وقد تستعمل في غير ما وضعت له العلاقة ما بين المعنيين؛ وقد تنحط إلى درجة وضيعة في الاستعمال فتصبح من فحش الكلام وهجره؛ وقد تسمو إلى منزلة راقية فتعتبر من نبيل القول ومصطفاه. . . وهلم جرا
ويختلف مبلغ ما تأخذه لغة عن أخرى باختلاف العلاقات التي تربط الشعبين وما يتاح لهما من فرص الاحتكاك المادي والثقافي. فكلما قويت العلاقات التي تربط أحدهما بالآخر، وكثرت فرص احتكاكهما، نشطت بينهما حرمة التبادل اللغوي ولذلك تبلغ هذه الحركة أقصى شدتها حينما يسكن الشعبان منطقة واحدة أو منطقتين متجاورتين؛ فالإنجليزية قد أخذت عن النورماندية أكثر مما أخذته عن أية لغة أخرى؛ لأن الغزاة من النورمانديين قد أستقر بهم المقام في نفس بلاد الإنجليز المغلوبين. واللاتينية قد اقتبست من الإغريقية أكثر مما اقتبسته من أية لغة أخرى؛ وذلك لتجاور منطقتيهما وشدة الامتزاج بين الشعبين الناطقين بهما. ولهذا السبب نفسه بلغت حركة التبادل اللغوي أقصى شدتها بين العربية والفارسية والتركية. وما اقتبسته ألمانية سويسرا من اللغة الفرنسية لا يذكر بجانبه ما اقتبسته منها ألمانية النمسا مثلاً؛ وذلك لأن القسم الألماني اللغة في سويسرا متاخم للقسم الفرنسي اللغة ولشدة الاحتكاك بين سكان القسمين، على حين أن النمسا غير متاخمة لمنطقة فرنسية اللسان. وقد تسرب إلى لغة رومانيا عدد كبير من مفردات الشعبتين الصقلبية والمجرية، على حين أن أخواتها اللاتينية الأصل (الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية) لم تكد تتأثر بهذين اللسانين؛ وذلك لأن رومانيا قد انعزلت عن أخواتها اللاتينية وأحاط بها من جميع جهاتها أمم صقلبية اللسان أو مجرية