وبعد أن رحل سيد أدركت الظالمة أنها كانت ظالمة، وأخذت تراجع نفسها وتسائلها: لماذا ظلمته؟ ولماذا حرمته مما كان يطلبه منها على أنها كانت تعطي غيره ممن هم دونه حلاوة وبهاء وروعة ما كان يسعده بعضه لو أنها أعطته بعضه. . .
وأخيراً أدركت السر.
عرفت أنها كانت تغار منه.
قد كانت هي غانية، وقد احترفت العبث بالنفوس وأتقنت هذا العبث، وقد استهوته أول ما استهوته بدمعة ذرفتها من عينها عمداً، وشكوى مدبرة باحت له بها قصداً، لما رأته يتردد على مجلسها مغنياً تتعالى روحه عليها، فما ينظر إليها نظرة الإعجاب المغرضة المتعجلة التي كان يوجهها إليها الناس جميعاً، وإنما كان يراها كما يرى الإنسان الإنسان، ويفتح لها نفسه كما يفتح الصديق نفسه لصديقه. . . وقد رأت في نفسه صورة قديمة لغرام قديم علمت أنه الذي يشغله عنها. . . ورأت هذه الصورة القديمة أحاطها بإطار من الإخلاص والإجلال اشتهت لنفسها مثلهما. . .
فزحفت إليه. . . ولكنها فشلت معه في كل محاولة حاولتها. . . وأخيراً صرعت هذا الجبار بالدمع. . . والدمع آخر سلاح تلجأ إليه المرأة، وهي إن لجأت إليه لم تنس فيه مرارة الذل الذي دفعها إلى حمله. . . فإن أفلحت به في اقتناص فريستها، فالويل بعدئذ لهذه الفريسة فلن ترضى المرأة منها إلا بدمع ودمع ودمع ودمع. . . ولن تعطي هي بهذا الدمع شيئاً لأنها تذكر دائماً أنها سبقت وسفكت قبله دمعاً. . .
هو ثأر!
والجبار يحتمله لأنه يذكر دائماً أن الذي صاده ذل، وكل جبار شديد العطف على كل ملوع بائس. . .
استدرجته إذن بهذا. . . ثم راحت تجمع الناس عليه، فإذا بالناس ينفضون عنها إليه، مع ما كانت تتفنن في لفت الأنظار أو الأسماع إليها في حضور سيد، فإن الأنظار والأسماع والأفئدة كانت تنفر منها إليه فقد وجدت فيه غذاء للأرواح ومتعة. . .