كنت أقرأ فصله عن الخلاف بين رجال العلم ورجال الكنيسة على تاريخ نشأة الإنسان فتحضرني أمثال هذه الخلافات وأسأل هل يعادي هؤلاء الناس العلم أو يعادون الدين وهم يزعمون أنهم نصراؤه والغيورون عليه؟ ففي الحقيقة هم يضيرون الأديان عامة ولا يضيرون العلوم أقل ضير، فلو صدق الناس ما كان رجال الدين يفرضون عليهم تصديقه لشك الناس فيما يفرض عليهم ولم يشكوا في الحقائق العلمية التي لا تقبل الجدل ولا تصبر عليه إلا إلى حين.
وكنت أقرأ تارةً في هذا الفصل وتارةً في ذاك شيئاً عن عادات المصريين في تسجيل المحفوظات أو في التحنيط أو في تدوين المعارف والملاحظات أو في إحصاء السنين والأزمان، فيوحي إليّ ذلك كله معنى جديداً من معاني الفوارق العجيبة بين ثقافة المصريين وثقافة الإغريق
فهاهنا حاسة تاريخية تثبت في النقوش مظاهر الحياة لأنها تثبت كل شيء للحفظ والتذكار والبقاء
وهاهنا حاسة علمية تثبت المظاهر لتنظمها في سلسلة المعارف والمشاهدات الملحوظة
وما سر هذا الفارق بين الثقافتين؟ هل سره امتياز في عقول اليونان أو عجز في عقول المصريين كما يحب الأوربيون أن يقولوا أو كما قالوا في دراسة الحضارات والأجناس؟
كلا. . . بل سره أن المصريين أصحاب تاريخ وولع بالتخليد راجع إلى قدم الكهانة وسيطرتها على المعارف والأفكار، وأن الإغريق لم يشعروا بضرورة التخليد ولا بأعباء الكهانة الموروثة فالتفتوا إلى مظاهر الحياة للعلم، ولم يذهبوا بها مذهب الحفظ والتقديس. ويؤيد هذا أن الأوربيين غلبت فيهم صبغة الكهانة على صبغة المعرفة حين استقر للكهانة بينهم تاريخ طويل.
وتقرأ الكلام عن معاملة الأسرى أو عن عروس النيل أو عن دساتير الحكم فإذا أنت مسترسل مع إيحاء الخواطر إلى حوادث هذه الأيام، وإذا بالزمن الدابر قد دبت في عيدانه اليابسة نضرة الحياة.
مجلدان آخران من قبيل هذا المجلد الأول كفيلان بنقل الزمن القديم في مصر إلى عالم الحياة الحاضرة، فقد كفانا من التاريخ ما يخرجنا من الحياة الحاضرة إلى الزمن القديم.