ذلك اضطراراً عندما ضمت ألمانيا النمسا إليها وفرض النازيون في هذه البلاد قوانينهم الجائرة على اليهود، وقد كان يهودياً، فكان من الأفراد القلائل الذين أجيز لهم مهاجرة النمسا وأخذ ما يكفيهم حاجتهم في الحياة.
وقد سكن، أثناء إقامته بفينا، أربعين سنة في منزل واحد لم ينتقل منه إلى غيره ولم يبدل في أقسامه وأثاثه؛ فهنا مكتبته وهناك عيادته التي يستقبل فيها مرضاه، وهذا مجلسه للمطالعة، وذاك مكتبه للكتابة والتأليف.
وبالرغم من أنه رب عائلة، ووالد ستة أولاد، فقد كان يقوم بعمله بنفسه لا يحتاج فيه إلى مساعدة، ولا يعرف شهوة غير شهوة العمل والمهنة.
لم يضيع لحظة من وقته الثمين سعياً وراء مظاهر باطلة وطلباً لألقاب زائلة. وقد كانت آلاف الأسابيع التي تألفت منها حياته تتتابع متشابهة متماثلة في دائرة العمل والاجتهاد، ولا يستثنى منها غير المحاضرات التي كان يلقيها بالجامعة في كل أسبوع من شهور التعليم، وغير مأدبة ثقافية على الطريقة السقراطية كانت تجمع طلبته حوله في مساء كل يوم أربعاء، وغير اشتراكه في لعب الورق بعد ظهر كل يوم سبت.
أما فيما عدا هذه الساعات القلائل فقد كانت كل دقيقة محسوبة عليه يستعملها في معالجة المرضى أو المطالعة أو الكتابة أو الأبحاث العلمية. وكان هذا الرجل الجبار يكتفي بساعات معدودة للراحة والاستجمام ينام فيها نوماً عميقاً ثم يقبل بعدها على العمل بكل ما فيه من حيوية هائلة وإرادة قوية.
كان (فرويد) يعمل نهاراً في عيادته فيستقبل عشرة مرضى أو أكثر، ويدرس حالة كل واحد منهم فاحصاً مدققاً مكتنزاً في ذاكرته كل مظهر من مظاهر عللهم، فإذا أقبل الليل انقطع إلى عمله الخالق المبدع القائم على تدوين النتائج التي انتهى إليها مما شاهده في النهار.
ولا شك أن هذا النشاط العجيب يحتاج صاحبه إلى صحة قوية وجسم سليم، وقد كان (فرويد) كذلك، فهو لم يعرف المرض في سني حياته الطويلة، ولم يشعر بتعب أو وني، ولم تفتر همته ولا ضعفت أعصابه أو تلاشت قدرته على العمل.
وقد أخذ نفسه في حياته العقلية بالصرامة التي أخذها بها في حياته العادية حتى صار مبدأه الوضوح في أعمال الرأي والتفكير والعمل، وصار التحليل غريزة في نفسه لا يستطيع