وبعد أن يقسم صاحب العود بعوده تقسيمات كثيرة أو قليلة، وبعد أن يتلوه صاحب القانون فيقسم هو أيضاً تقسيمات كثيرة أو قليلة، وبعد أن يعقبه صاحب الكمان فيقسم كذلك تقسيمات كثيرة أو قليلة، ربما بعد أن يغني واحد من أفراد التخت أغنية طويلة أو قصيرة، هذا كله وبعد طلوع الروح يبدأ حضرة المغني فيغني، فإذا نشط في غنائه قيل إن حضرته تسلطن
هذه هي الصورة التي يتصورها أهل هذا الجيل عن السلطنة، وهي صورة تنطبق على الحق وعلى الذي كان واقعاً، وإذا كان أهل هذا الجيل الذي نعيش فيه يكرهونها ويسخرون منها ولا يطيقون أن يرزءوا بها فإنما ذلك يرجع إلى أنه قد فاتهم تعليل كل ظاهرة من ظواهر هذه الصورة. . .
ولو أنهم عرفوا لأي سبب كان القدماء يحبون السلطنة من المغنين ويستجدونها منهم استجداء ويتكلفون تهيئتها لهم تكلفاً قد يرهقهم في أغلب الأحيان. . .
لو عرفوا هذا. . . إذن لأسفوا لأنهم قد حرموا اليوم ألذ متعة فنية قضى عليها جيلنا الحديث المتعجل الذي يستمع الناس الغناء فيه وكأنهم راكبون في قطار، يعدون على المغني أغانيه كما يعد ركاب القطار عليه المحطات؛ ويهرعون إليه قبل موعد الستار كما يهرع الركاب إلى القطار قبل موعد القيام، وينفضون عنه بعد الوصلة الأخيرة كما ينفض الركاب من القطار في محطة الوصول. . .
فلا تذوق، ولا استسلام، ولا واحد من المستمعين هؤلاء يتأخذ بالغناء، ولا واحد من المغنين هؤلاء يغزو نفساً من نفوس مستمعيه. . . وإنما هو (سلق بيض) كما يقول عامتنا الحكماء. . .
كان المغني القديم لا يحافظ على ساعة محددة يحضر فيها إلى الحفلة، وإنما كان يجعل موعده ليلة الحفلة بأكملها، فيحضر إليها وقتما يحضر. قد يبكر وقد يتأخر غير متعمد تبكيراً ولا تأخراً وإنما الذي يتعمده هو أنه لا يذهب إلى هؤلاء الناس الذين جاءوا ليستمعوه إلا بعد أن يستوفي راحة بدنه على الأقل، بأي صورة ما من صور الاستجمام تريحه هو.
ثم إذا جاء إلى مكان الحفلة طلب الخمر أو غير الخمر من قالبات الدماغ، لأن الغناء عورة