للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يا زعماء الشرق إلا من جهة خصائصها التي تبجحت بها حيناً من الدهر، وهي الإفراط في الأدب والفن والكلام، حتى غلب فيها النظر على العمل، والحفظ على التفكير، والخيال على الواقع. وقاعات التمثيل على أندية الرياضة؛ فمن المعقول ألا يقام لها وزن مع الجرمانية التي كان من أظهر خصائصها الممتازة أن ألَّفت ثقافتها وحضارتها من عناصر معلومة المقادير مضبوطة النِّسب من كل ما يتصل بالمادة والأدب، ويدخل في غذاء الجسم والروح، فلا يطغى منى على معنى، ولا يجوز شئ على شئ؛ ثم هي لا تفهم الفرد إلا بالأمة، ولا العلم إلا بالتطبيق، ولا العمل إلا بالتجويد، ولا رياضة العقل إلا برياضة البدن، ولا غاية الآخرة إلا بطريق الدنيا. وكل ما يصدر عن الجرمانية من نتاج الفكر واليد موسوم بسمات القوة والدقة والجد.

ماذا عسى أن نصنع يا زعماء الشرق العربي وهذه اللاتينية المتخلفة العجفاء قد غلبت علينا لوجودنا على البحر الأبيض المتوسط، واتصالنا بشعوبها المختلفة في العمل والتجارة، واعتمادنا على رسلها الدينيين في التربية والتعليم، فأخذنا من أهلها حب الكلام وشهوة الجدل. فقادتُنا كتاب ومحامون، وجيشنا هُتَّاف ومتظاهرون، وعُدتنا أحزاب وصحف! وإذا لم يكن زعيمنا من صاغة الكلام وراضة المنابر انصرفت عنه الأسماع ونبت عليه النفوس ولو كان ملء سكوته العمل المثمر!

من صفات اللاتينية فينا أننا لا نزال نتعلم بالحفظ، ونتقدم بالمحاباة، ونعمل بالواسطة، ونقنع بالشكل، فلا يهمنا من النظام إلا أن يبقى مظهره وإن ذهب جوهره.

ومن مظاهر اللاتينية فينا أن ضعف إيماننا بالمثل الأعلى والخير الأعم. فالأمة معناها: أنا أكون، والوطنية مغزاها: أنا أعيش. فإذا تناقضت منفعة الفرد ومنفعة الأمة، وتعارضت رغبة النفس وإرادة الوطن، وقع الضمير الاجتماعي في غشية ثقيلة لا يبالي المرء فيها أن يخون أو يسعف أو يسقط.

ومن بلايا اللاتينية فينا أننا نسرف في الوعود، ونتزيد في الحديث، ونداجي في النصيحة، ونكابر في الحق، ونجاحش في النقاش، ونركن إلى شعبذة الحظ، ونستكين إلى معابثة القدر، ونستأمن إلى مخادعة السلامة.

فإذا شئنا أن نتقي العواقب المحتومة لهذه التربية الفاشلة، فلنطهر قلوبنا من رواسبها

<<  <  ج:
ص:  >  >>