للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وراء الدروع غير الحدق، وإذا أبو سفيان زعيم قريش قد أشترى حياته بإسلامه، ثم وقف مع العباس بمضيق الوادي يشهد جيش الفتح وهو زاحف إلى مكة ويقول: هذا والله ما لا طاقة لنا به! لقد أصبح ملك ابن أخيك يا أبا الفضل عظيماً. فقال له العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة!

ثم نجا أبو سفيان إلى مكة فصاح بأعلى صوته: يا معشر قريش، لقد أتاكم محمد بما لا قبل لكم به، فسلموا تسلموا

أهذه مكة الطاغية التي لبثت إحدى وعشرين سنة تفور بالسفه والإفك والضغينة والمعارضة على محمد ودين محمد وأصحاب محمد؟ ما بالها خشعت خشوع الجناح الكسير وسكنت سكون المقبرة المهجورة؟ لقد باتت ليلة من ليالي يناير الباردة الطويلة وقلبها يرجف من هول الغد وانتقام الفاتح. ثم أصبحت مكة الساهدة فإذا أهلها بين قابع في منزله، أو عائد ببيت الله، أو لائذ بدار أبي سفيان؛ وإذا فرق الجيش المحمدي الظافر تنحدر من (ذي طوى) مكبرة ومهللة إلى جهات مكة الأربع، فلما ارفضت المخاوف عن الناس خرج القائد الأعظم من قبته المضروبة بأعلى مكة يؤم المسجد الحرام، وعلى جوانب الطرقات ألسنة المسلمين تذكر، ومن وراء الحجرات عيون المشركين تنظر، والرسول الكريم قد طأطأ رأسه على رحله حتى كاد أن يمس قادمته؛ فلم يجر على باله أن هذه الأرض التي طورد فيها وسال دمه عليها قد أصبحت ملكه، وأن هؤلاء الناس الذين قذفوه بالأحجار ورموه بالأقذار قد أصبحوا أسراه، حتى دخل المسجد فطاف؛ ثم أقبل على الأرستقراطية الصاغرة وهي تتطامن من القلق والفرق وقال لأهلها الذين افرطوا عليه في البذاء والإيذاء: يا معشر قريش، أذهبوا فأنتم الطلقاء!

كان يوم الهجرة وما قبله تشريعاً من الله في حياة الرسول للفرد المستضعف إذا بغى على حقه الباطل، وطغى على دينه الكفر، ليعرف كيف يصبر ويصابر، وكيف يجاهد ويهاجر، حتى يبلغ بحقه ودينه دار الأمان فيقوى ويعز

وكان يوم الفتح وما بعده تشريعاً من الله على لسان الرسول ويده للأمة إذا اتسعت رقعتها واجتمعت كلمتها واستحصدت قواها لتعلم كيف تنسى الضغائن إذا ظفرت، وتحتقر الصغائر إذا كبرت، ثم لا تحارب إلا في الله ولا تسالم إلا في الحق

<<  <  ج:
ص:  >  >>