للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فأمر لي برغيفين ودجاجة، فأخذت ذلك وبرزت عن الصف فلما رآني الشاري أقبل نحوي وعيناه تتقدان، فقلت له: (على رسلك يا هذا كما أنت) فوقف، فقلت: (أتقتل من لا يقاتلك. . .) قال: (لا) قلت: (أتقتل رجلاً على دينك) قال: (لا) قلت: (أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقاتل إلى دينك) قال: (فأذهب عني إلى لعنة الله) قلت: (لا أفعل أو تسمع مني) قال: (قل) قلت: (هل كانت بيننا قط عداوة أو ترة، أو تعرفني بحال تحفظك عليّ، أو تعلم بين أهلي وأهلك وتراً) قال: (لا والله) قلت: (ولا أن أعرف والله إلا جميل الرأي، وإني لأهواك وأنتحل مذهبك وأريد السوء لمن أراده لك) قال: (يا هذا جزاك الله خيرا فانصرف) قلت: (إن معي زاداً أحب أن آكله معك لتتأكد المودة بيننا ويرى أهل العسكر هوانهم علينا) قال: (أفعل) فتقدمت إليه حتى اختلفت أعناق دوابنا وجمعنا أرجلها على معارفها والناس يضحكون، فلما استوفينا ودعني، فقلت له: (إن هذا الجاهل - يعني روح بن حاتم - إن أقمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعبني وتتعب، فإن رأيت ألا تبرز اليوم فافعل) قال: (قد فعلت) ثم انصرف وانصرفت، فقلت لروح: أما أنا فقد كفيتك قرني فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك. فأمسك. وخرج آخر يدعو إلى المبارزة، فقال لي: اخرج، فقلت له:

إني أعوذ بروح أن يقدمني ... إلى النزال فتخزى بي بنو أسد

إن البراز إلى الأقران أعلمه ... مما يفرق بين الروح والجسد

إن المهلب حب الموت أورثكم ... وما ورثت اختيار الموت عن أحد

لو أن لي مهجة أخرى لجدت به ... لكنها خلقت فرداً فلم أجد

فضحك وأعفاني

وهذا الذي كلم به أبو دلامة قرنه فكفاه شره، احتجاج قوي لترك الحرب، ولو كان الأمر إلى الجنود المسوقة وخوطبت بمثله لكان الأرجح في الرأي والأغلب في الاحتمال أن تلقى السلاح وتنفض يدها من كفاح لا تعرف باعثاً عليه أو موجباً له، ولكن الأمر للقادة والرؤساء وهؤلاء لا يعبئون إلا بما يطمعون فيه ويسعون له، ولا يبالون من رضى ممن سخط، ومن بقى ممن هلك، إذا هم أدركوا بغيتهم ونالوا وطرهم

وقد خاطب الألمان جنود فرنسا بمثل كلام أبى دلامة - في هذه الحرب فكانوا في الشهور الأولى - شهور الركود والتربص - كل ليلة ينادونهم من خط سجفريد (أن لماذا تحاربوننا

<<  <  ج:
ص:  >  >>