الأمين طفلا، وهو الأمين شيخا. ائتمنه قومه فكان له في الطيبات فضل سابغ وفي المكرمات مجد سامق. وأتمنه ربه فاختصه بأعباء الرسالة، فنهض بها على اكمل الوجوه، وما اختصه بها إلا وقد طهره من كل غرض ونزهه عن كل دنس. أدبه ربه فكان أميناً، ومن أمانته شعت أنوار أخلاقه. لقد أدب الرسول ربه فسمت أخلاقه، ونبلت صفاته، فكان أصدق الخلق حيث يقول:(أدبني ربي فأحسن تأديبي)؛ لا يقف صدق هذه الكلمة الروحانية على نبل صفات الرسول وأمانته، وصدقه، وسمو غايته؛ بل إنها لصادقة في كل تصرفاته كرجل اجتماعي. ومن ذا الذي جمع دقيق أمره وجليله مثلما جمع؟ ومن ذا الذي ربط بين أغراضه وأغراض الإنسانية مثلما ربط؟ ومن ذا الذي قبل الرأي قبل الفصل مثلما قلب؟
من ذا الذي جرى في أعماله وراء الضمير الطاهر مثلما جرى؟ أفلم يبعث للعرب ولم تكن تقيدهم غير تيهاء مترامية، فلم الشعث، وألف القلوب، وآخى بين النفوس، ورأب الصدع، ووحد الثقافة وناهيك بتوحيد الثقافة في إنهاض الأمم! لكم كان الرسول محقاً حين قال:(أدبني ربي فأحسن تأديبي) فهو مثال المصلح الاجتماعي الذي يعلم أن إدراك الداء هو سر الدواء، المصلح الذي يخاطب القلوب والعقول، المصلح الذي يلابس الحياة وما يضطرب في الحياة، فتسوقه هذه الملابسة إلى كل مناحي الإصلاح ولقد كان الرسول كل هذا، وكان فوق هذا المصلح القوي الكريم الذي لا يغويه السلطان فيبطش، وما كان إلا ما يدل على قوة اليقين، والترفع عن الأهواء، والعفو عند المقدرة، والنفور من الطمع. إلا إن هجرة الرسول الكريم لأعظم دليل على إدراكه لروح المجتمع، وحسن تصرفه كمصلح سماوي ذي رأي سديد، وفكر صائب. ما هاجر رجل وصاحبه، إنما هاجرت فكرة وعقيدة. وما اضطهدت فكرة وعقيدة. وما أنتصر رجل، وإنما انتصرت فكرة وعقيدة
ما هاجر الرسول إلا وقد عقد العزم على العودة، ولكن بعد أن يستشعر القدرة على رياضة تلك النفوس الجامحة. ما هاجر الرسول إلا بعد أن أدرك أن من العبث نقاش عقول جامحة غطى عليها الغضب، وران عليها الحقد، فلا سبيل لتقويم عوجها، وتثقيف منآدها إلا بعد أن تسكن فيها عوامل الثورة، وتبرد جمرات التحفز. وأدرك الرسول هذا فكان حكيما، وعلم أن امتداد الزمن بينه وبينهم وابتعاد الشقة - ولو إلى حين - سيفعل في النفوس الجامحة فعله فتتحرك الضمائر، وتحيا القلوب. ولقد كان كل هذا، ودارت السنون، واجتمع للرسول