تمكنهم من الإتيان بأغان تشرفها، لولا استقرار العادة على مراعاة التقاليد التي سلطها الجهل وضعف الطبع، ولولا طلبات الملحنين والمغنين الخاضعين لأذواق الجمهور الفسيدة.
أما الملحن، فالنصيحة الخالصة له أن يوطد العزم على نبذ العادة القديمة ومقاومة التقاليد السقيمة؛ وإن يتحاشى عن نية تقليد الشرقي والغربي على حد سوى، ولا سيما التقاليد الأعمى من اقتباس عبارة صوتية معينة - مثلاً - يعجبه أسلوبها فيقحمها في لحنه غافلاً عن مدلولها، أو من مد مخصوص، أو من تعمد التحزين الخارج عن الفن، ومما إلى هذه الأمثلة.
فإن كان صادق العزم، فسبيله أن يطب نفسه أولاً من الذلة والخور والخنوع، ويشفيها من داء الحزن العضال، ومن التفجيع المقيت والعويل الثقيل؛ وإن يحررها من بدعة التخنث والتكسر والتميع، ليخلص أولاً من كل هذه العلل الوبيلة التي مكنها منه استحسان العامة وأشباه العامة. ومما يعينه على النجاة النزهة الخلوبة، والرياضة البدنية، والمطالعات المنعشة، والصاحب المؤنس المفرح، وإجالة الخاطر في الموضوعات الملائمة للغرض، والإيحاء التلقائي.
والأجدى له في عمله هو أن يمعن في التفكير بادئ بدء في فحوى ما هو مقبل على تلحينه من الكلام، وإن ينظر ملياً في جمله وكلماته وحروفه، ليتبين الروح الذي أملاه، والموقف الذي يصف؛ ثم يتصور أنه هو في هذا الموقف، وأن ذلك الكلام كلامه؛ فإذا أرهف حسه، وأيقظ ملكاته، وهيأ نفسه وشعر بإيحائها وارتياحها إلى التلحين، أخذ في الترنم بالأغنية؛ ثم يكرر التغني حتى يجيء مدلول اللحن مطابقاً لمدلول الكلام المعبر عن الحال النفسية التي استعارها لنفسه هو من الموقف الموصوف بالأغنية؛ ثم يترك اللحن الذي وضعه أول وضع، ويرجع إليه مرة بعد مرة لتهذيبه وإحكامه على مقياس تلك المطابقة، لا ابتغاء جعله مشابهاً للحن آخر، أو مرضياً لذوق خاص؛ فيدع الصوت يعبر التعبير الطبيعي، ويطابق مقتضى المقام المدلول عليه بالكلام بما أنه قد تعمد اعتقاد وجوده هو في هذا المقام، واعتاد هذا الاعتقاد حتى استقر ما بفكره ونفسه في عقله الباطن.
وأما المغني، فسبيله أن يعمل في التدرب على غناء اللحن ما عمل صاحبه في إنشائه، بعد أن ينفي عن نفسه ما استطاع من ذلك الحزن المميت وتلك الذلة الساحقة، سواء أكانت