ويلبثون على ذلك حتى ينادي المؤذن بالظهر، فتنطفئ عند ذلك شعلة حماستهم، وتتخافت أصواتهم ويحسون بدنو ساعة الخطر، فينزوي كل واحد منهم في ركن من أركان الدار ينظر في ثيابه يحاول أن يزيل ما علق بها من الأوساخ، أو أن يصلح ما أفسد منها، كيلا يبقى عليه أثر يعلن فعلته، ويتذكرون ما هشموا من آثار المنزل حين عاثوا فيه مخربين، فيجمع كل واحد منهم ما يقدر عليه من حطام الأواني فيلقيه في زاوية الزقاق في غير الطريق الذي يمر منه الشيخ، ويرجع النسوة إلى أنفسهن فيسرعن في إعداد الطعام وإصلاح المنزل. وتدور العجوز لتطمئن على أن قبقاب الشيخ في مكانه لم يزح عنه شعرة، لا تكل هذه (المهمة) لكنتيها ولا لبناتها، لأنها لم تنس طعم العصي التي ذاقتها من أربعين سنة. . . في ذلك اليوم المشؤوم الذي وقعت فيه الكارثة ولم يكن قبقاب الشيخ في مكانه، وضم إليها القدر مصيبة أخرى أشد هولا وأعظم خطرا، فتأخر صب الطعام عن موعده المقدس (في الساعة الثامنة الغروبية) عشر دقائق كاملات. . .
وللشيخ حذاء (كندرة) للعمل، وخف (صرماية) للمسجد، و (بابوج) أصفر يصعد به الدرج ويمشي به في الدار، و (قبقاب) للوضوء، وقد تخالف الشمس مجراها فتطلع من حيث تغيب، ولا يخالف الشيخ في عادته فيذهب إلى المسجد بحذاء السوق، أو يتوضأ بباجوج الدرج. . .
وتعد العجوز قميص الشيخ ومنديله، وتهيئ (البقجة) التي تضع فيها ثياب السوق بعد أن تساعده على نزعها وتطويها على الطريقة التي ألفتها وسارت عليها منذ ستين سنة، من يوم تزوج بها الشيخ وكان في العشرين وكانت هي بنت ست عشرة، وهي لا تزال تذكر إلى الآن. كيف وضح لها أسلوبه في الحياة وبين لها ما يحب وما يكره، وعلمها كيف تطوي الثياب وكيف تعد القبقاب، كما علمها ما هو أكبر من ذلك وما هو أصغر وحذرها نفسه وخوفها غضبه إذا هي أتت شيئا مما نهاها عنه، فأطاعت ولبثت هذا العمر كله وهي سعيدة مسعدة طائعة مسرورة لم تخالف إلا في ذلك اليوم المشؤوم وقد لقيت فيه جزاءها، ونظرت العجوز الساعة فإذا هي في منتصف الثامنة. لقد بقي نصف ساعة. . . ففرقت أهل الدار ووزعت عليهم الأعمال، كما يفرق القائد ضباطه وجنده ويلزمهم مواقفهم استعدادا للمعركة، فأمرت بنتها الكبرى بإعداد الخوان للطعام، وبعثت بالأخرى لتمسح