للمؤلف، فمن المؤلفين من لم يعجبهما ألف ولم يرقه ما كتب، وإنما كتب الخلود لما قدره الناس لا ما قدره المؤلف - شعر المؤلف بذلك وأراد أن يعتذر عنه (بأنها ثورة نفسية، انطقه بها ما رآه في زمانه من غدر وعقوق) ولكن هل هذا القول يداوي الجرح ويبرئ المرض؟ أخشى أن يحمل الناس على الإلحاح في العقوق والإمعان في الغدر، لان النفس مولعة أبدا بكراهية الحديث عن النفس، ومن طبيعتها أن يحملها إمعان المادح في مدح نفسه على إمعانها في التنكر له وجحد فضله، بل أخشى أن يكون هذا بعينه هو السبب في الغدر والعقوق، فقد اعتادت النفوس ان تقابل الإفراط بالإفراط والغلو بالغلو.
إن يكن المؤلف قد خانه التوفيق في المقدمة فقد صحبه إلى درجة كبيرة في الكتاب، فهو نتيجة مجهود صادق وبحث طويل شاق، أتي فيه بالمقدمة في الموازنة بين الشعر والنثر، ثم تطور النثر من عصر النبوة إلى القرن الرابع، وتكلم في نشأة النثر الفني، والسجع واطواره، وخصائص النثر في ذلك العصر وانواعه، ثم اشتهر الكتاب في كل نوع ونماذج من كتابتهم، وتحليل لأثارهم.
وطريقة بحثه في كل ما بحث سليمة، جارية على الأسلوب الحديث في العرض والنقد واستقصاء ما في الوسع في الرجوع إلى المصادر ومقارنة بعضها ببعض، والشجاعة في إبداء الرأي، والقارئ قد يخالفه في بعض ما قالوا يرى رأيا غير ما ذهب إليه، ولكنه على كل حال يقدر ما بذل المؤلف في تكوين رأيه وتأليف حججه. ثم هو قد وفق إلى آراء جديدة له الفضل في استكشافها ولفت النظر إليها، وآراء صقلها وعرضها في حلة جديدة. وإني إن احترمت الكتاب من الناحية العلمية والعقلية، فإني ناقده من جهة الذوق، وذلك أن الدكتور زكي مبارك كلما رايته أو استحضرت صورته، أشع علي معنى غريبا يصعب تصويره، وربما كان اقرب تصوير له رجل يمسك بيسراه كتابا قيما فيه علم غزير، وأدب وفير، وبيده اليمنى عصا اشهرها، ثم هو يطلع الناس على ما في كتابه من طرف فمن هم أن يفتح فاه بنقد أو مخالفة قنعه بما في يمناه، بل قد يؤمن من الناظر بما يعرض عليه، فلا يعجبه الاستسلام وهذا الإيمان فلا يزال يهيجه حتى يبدأ بالمخالفة أو يظن انه سيبدأ بالمخالفة فيشهر عليه العصا، بل قد يكون السالك على علم بذلك فيتنحى عن كتابه وعن عصاه ويتنحى ناحية أخرى فيسرع الدكتور ليسد عليه المسلك ويأبى أن يفسح له الطريق