للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وبإزاء هذه الحقيقة الظاهرة حقيقة أخرى لا تقل عنها ظهوراً وجدارة بطول العناية والتدبر، وهي أن الأمان كل الأمان، خطر على الهمم والأذهان. فإن كثيراً من الجهد النافع مبعثه طلب الأمان في المستقبل، وشعور النفس بالحاجة إليه في أخريات الحياة. فإذا اطمأن إليه كل حي من بداية حياته فترت حركته وغلب عليه حب الاستقرار، ومني العالم بخطر من جراء ذلك هو أخطر عليه من الإجحاف في تقسيم بعض الأعمال وتوزيع بعض الأرزاق

وهناك حقيقة لا مراء فيها وهي أن المغامرين المقتحمين ينالون أحياناً فوق ما يستحقون من جزاء، ويأخذون أحياناً بعض ما يستحقه المحرومون الذين لا وزر عليهم في هذا الحرمان

أما الحقيقة التي بازائها فهي أن المغامرين المقتحمين ينكبون أحياناً في الأرواح فضلاً عن نكبتهم في الأرزاق والأموال، وأنهم لا ينطلقون مع طبائعهم القوية في عالم تشتد قيوده وتتساوى نتائجه ولا تتسع فيه الهوة بين الأمل العظيم في نجاح كبير وبين الإقدام العظيم على خيبة قامة للظهور، وأن خسارة العنصر المسالم الوديع

وهناك حقيقة من هذه الحقائق فحواها أن الغنى ليس بجريمة، وأن الفقر ليس بفضيلة، فلن يقول أحد به مسكة عقل أن الأغنياء، وأن الفقراء يستحقون الغنى لأنهم فقراء، وأن جاز أن يقال أن الإفراط في الغنى والإفراط في الفقر ظلمان محققان

أما الحقيقة التي بازائها فهي أن الأمر لا يرجع هنا إلى العدل والاستحقاق، ولكنه يرجع إلى صلاح المجتمع ولو نال فيه فريق فوق ما يكافئ عمله وجدواه. فكل عضو شاك يكلف الجسم بعض الأحيان فوق حقه وفوق نصيبه من العمل والجدوى؛ وبغير هذا العلاج لا تستقيم صحة الأجسام

وصحيح أن العالم مدين للعصاميين، وأن العصاميين لم يولدوا في الذروة العليا من طبقات الامة، ولكن ليس بصحيح أن طبقة الحضيض هي صاحبة الحصة الكبرى في إنجاب العصاميين؛ وإنما الصحيح أنهم ينشئون وسطاً بين الطبقة التي نهكتها رذائل الترف والغرور والطبقة التي نهكتها رذائل الهوان والمسكنة. ومعظم المصلحين الذين نفعوا الفقراء لم يكونوا من ضحايا الفقر المدقع والمنبت المنحدر البالغ في الانحدار، مما يؤيد

<<  <  ج:
ص:  >  >>