ولقد رج الأزهر يومئذ رجة عنيفة هي الرجة التي تصاحب دائماً عهود الثورة، وتغري المصلحين بالمضي في طريقها غير ناكصين، ومن يتتبع خطواته في الإصلاح يجدها خطوات واسعة وموفقة يرجع إليها الفضل من غير شك في كثير مما يتمتع به الأزهر الآن من خير؛ فقد أعد قانون الأزهر الذي يسير عليه الآن، وأعد مشروع بناء كلياته ومعاهده ومكتبته ومساكن طلابه على نمط سيكون به للأزهر أن شاء الله مدينة جامعية محترمة، وأنشأ قسم الوعظ والإرشاد ففتح بذلك للأزهر وللأمة وللدين ألواناً من الخير والصلاح ليس ينكرها أحد، ووضع أساساً جيداً لمجلة راقية - فيما كان يرجو - تصدر باسم الأزهر، فتنشر بين الناس ثقافته، وتعلن في مشكلات الحياة رأيه، وتهدي الأمة إلى أقوم السبل في دينها ودنياها، وأدخل في مناهج التعليم في الأزهر علوماً وكتباً ما كان الأزهريون من قبل يعرفونها، ورسم في كل ناحية من نواحي الإصلاح خطة جامعة جريئة؛ ونجح إلى حد ما في إصلاح نفوس الأزهريين، وفي كبح جماح العناصر الفاسدة المقاومة لفكرة الإصلاح، وفي توجيه المستعدين إلى العمل نحو النشاط والإنتاج!
وابتدأ الحظ السعيد يبسم للأزهر، وشهد التاريخ كيف أخذت هذه الجامعة الكبرى بأسباب النهوض والتقدم، ودلفت إلى طريق المجد والعظمة وآمن الناس بان للأزهر وجوداً، وبأن في الأزهر حياة!
ولكن الزمان لم يلبث أن استدار وتجهم، كأنما نَفِس هذه السعادةَ أن ترف على الأزهر ضلالها، فإذا الشيخ الأكبر يترك منصبه ولما يزل غرسه محتاجاً إلى التعهد والرعاية: خرج يومئذ من الأزهر خروجاً مفاجئاً لم يكن الناس يتوقعونه ولكنهم عرفوا فيما بعد أسبابه. وليس صحيحاً ما ذكره (عالم) في الرسالة من أن كثرة الأزهريين هي التي وقفت في سبيله وألجأته إلى ترك منصبه؛ فكلنا يعرف الأسباب الحقيقية التي من اجلها ترك الأستاذ الأكبر منصبه العظيم؛ وكلنا يعرف أن الأزهريين كبارهم وصغارهم ضلت أعناقهم له خاضعين ما دام في الأزهر، حتى إذا اعتزل منصبه نعب عليه قوم وتصايحوا، وأفحشوا من بعد في القول وجاءوا بإفك عظيم!