أما بعد فحديثنا يتصل كل الاتصال بالحرب وجو الحرب، ويساير أحوالها ويلابسها أصدق ملابسة، وواجب الكاتب الحق أن يكون لسان الحياة الناطق بما يضطرب فيها. وخير الأفكار ما كان في جوهره وليد الحوادث. وحقيق بمن يحمل القلم وهو أشرف سلاح أن يشرعه في وجه المدلهمات يحللها، وينشر لقومه ما يبصرهم بما في الاتجاهات المختلفة من الضّرِ والشّين، ويقفهم على ما فيها من النفع والزّين
. . . كنت قلت في أول نقاشي مع ولدنا الأديب (حسين) إن الناس لم يفرطوا في أمور دنياهم والإنسانية والروابط الدينية، إلا منذ أن فرطوا في شخصيتهم وأخلاقهم، فأصبحوا لا يحكمهم شعور حي، ولا يقيد شرورهم رحمة. . . ورأى هو أن السبب فساد التأمل واختلاطه بحب الذات، فأصبح الإنسان لا يرى الشيء حسناً إلا إذا كان له نصيب من حسنة!
وقادنا الحديث إلى ذكر الحرب ولكنا لم نتناول يومئذ منبهم أسرارها بالتشريح، وكأنما تركنا الأمر إلى عودة، وقد عدنا له فما حديث الحرب بيني وبينه؟
قلت: ما السر في الحرب وما الدافع إليها؟ وكيف تظل قيودها تطوق الإنسان إلى اليوم، وقد سار به الزمن وسار معه من طفرة إلى طفرات في الرقي العملي والنظري؟ وكيف يعجز اليوم عن حل مشكلاته فلا يجد سبيلاً غير التدمير والتخريب؟
لقد قيل إن المعرفة تكفل السلام بسمو الفكر، والترفع عن الدنيا، والتطهر من أدناس الوحشية والهمجية، وانتشار مبدأ الإنسانية. . . فهل تحقق كل هذا؟ وما ينفض العالم يده من غبار حرب ضروس، إلا ليخوض في أوعاث وأوعار حرب عاصفة، تغمر السماء بالموت الطائر، وتكتسح الأرض بالموت الزاحف!!
لقد قيل إن المدينة تصلح فساد الحياة، وتثقف أودها، وتصل أطراف الإنسانية فتقوم! فهل عرفنا سوى أن المدنية تقدم في تقويض البناء، وتقطيع الأواصر؟ فما السر في هذا الاضطراب؟ وما مدى أثر المدنية والتقدم فيه؟
قال: لعل السر من قديم هو طبيعة المغالبة في سبيل البقاء، فالإنسان بما اجتمع فيه من غرائز تقربه من الحيوان مسوق إلى استغلالها فيما جُعلت له، وخاصة حين تفرض عليه